"قافلة كُتب من قرطبة": تصويرٌ مُحِبٌّ للأندلس

28 ديسمبر 2021
من صفحات "قافلة كُتب من قرطبة"
+ الخط -

نحن إزاء قصّة، أو رواية، مصوّرة، شارك في إنجازها كاتب السيناريو الفرنسي ولفريد لوبانو، والرسّام الفرنسي ليونارد شومينو، في استلهامٍ للحقبة العربيّة - الإسلاميّة في الأندلس، ضمن قصّةٍ لُحمتها من نسج الخيال. تجري أحداث القصّة في قُرطبة القرن الخامس للهجرة (الموافق للقرن الحادي عشر للميلاد)، حين كانت الأندلس تحت الخلافة الأمويّة، وكانت حينها عاصمة العُلوم والآداب والفنون. وكانت تضمّ في أرجائها مكتبةً ضخمة، لعلّها الأكبر في العالم ــ في ذلك الوقت ــ بعد مكتبة بغداد، إذ تجمع أربعة آلاف عنوانٍ من نفائس المخطوطات التي استُجلبت من سائر حواضر البحر المتوسّط حتى مشارف الهند. وفي تلك الكتب يقرأ النّاس موضوعاتٍ دنيوية، تتحاور فيها الأديان "والملل والنِّحَل"، كما أطلق عليها آنذاك ابن حزم الأندلسيّ (994 ــ 1064). وقد كوفئ الكاتب ولفريد لوبانو، في نهاية شهر تشرين الأوّل/ نوفمبر الماضي، بـ"جائزة جاك لوب" لأفضل كاتِب سيناريو من أجل أعمالِهِ الكاملة في مهرجان الرسوم الكرتونيّة الذي انعقد في مدينة بلوا الفرنسية.

عندما مات الخليفة، الحَكَم الثالث، وَرثه ابنُه الذي لم يكن له من العمر سوى إحدى عشرة سنةً، ولذلك تولّى المنصور، الوزير الأوّل، شؤون الدولة ريثما يكبر الأمير ــ الخليفة ويبلغ أشدّه. ولكنّ هذا الوزير لم يكن يميل إلى الثقافة، كما كان حالُ سيّده، ولذلك قرّر إحراق كلّ المؤلّفات ممّا سوى الكتب الدينيّة. وقبل وقوع هذه الكارثة، تولّى طريد، صاحب خزانة الكتب (وهو عبدٌ مَخصيّ)، إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فَسرقَ، ليلًا، وعلى وجه السرعة، بعض المخطوطات الأكثر ندرة ونفاسةً. وساعدته في ذلك لُبنى، أمَةٌ سَوداء مثقّفة تعمل في نسخ المصنّفات، ووضعا تلك النفائس على بغلٍ، وصاحبَهما في ذلك طارق (تلميذ سابق تحوّل إلى لصٍّ). وهكذا بدأت هذه القافلة تسير في أصقاع الأندلس بحثًا عن مَلجأ لهذه الحمولة التي يتعقّبها جنود الوزير. ومن هنا جاء العنوان الفرنسي: La bibliomule de Cordoue، وأوّل كلمةٍ فيه نحتٌ من كلمتَيْ: bibliothèque (مكتبة) وmule (بغل) ــ وهي صورة تشبه إلى حدّ كبير رمزيّة حمار توفيق الحكيم ("حمار الحكيم"، 1940) الذي كان محبًّا للنّقاشات الفلسفيّة. يمكن ترجمة هذا العنوان، مع قليلٍ من التصرّف، بـ"قافلة كُتب من قرطبة".

وأمّا جذور هذا التأليف فتعود إلى سنة 2015، على أعقاب سلسلة الاعتداءات الإرهابيّة التي ضربت العاصمة الفرنسيّة باريس. فبكثير من الخَلط، اقترَن حينها اسم الثقافة العربيّة ــ الإسلاميّة بالظّلاميّة ورفض العقلانية. وغدا كلُّ مَن هبّ ودبّ يُحاضر في الإسلام وعلاقتِه بالتطرّف. وقد كان صاحبا العمل، الرسّام والكاتب، مُدركيْن لآثار هذا الخلط في المخيال الفرنسي وما ينتجه من نقاشات عامَّة ضمن المشهد الثقافي. فعادا إلى حقبةٍ مُشرقة من تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، الفترة الأندلسيّة، لإظهار ما كان فِيها من نبوغ عقليّ وإبداع فنّي من خلال هذه الرواية المصوّرة التي تتألّف من 264 صفحة، (صدرت أخيراً عن دار نَشر "دارغو"، المختصّة بالقصص والروايات المصوّرة، في باريس).

قصّة مصورة تنقض الصورة المسطّحة عن الإسلام في فرنسا

تقدّم الرواية مشاهدَ دقيقة عن مستوى التقدّم العلمِي الذي بلغته العقول العربية الإسلامية آنذاك، من خلال إسهامها في مجال العلوم التجريدية كالفلسفة والرياضيات وَالمنطق وعلم الفلك والطبّ، حيث نبغت أسماء عديدة أشهرها ابن حزم الأندلسّي، صاحب "طوق الحمامة"، وابن مضاء القرطبيّ، وابن حيّان القرطبيّ، وموسى بن ميمون، وغيرهم كثيرون ممّن بَرعوا في العلوم طيلة القرن العاشر للميلاد وما تلاه.

وقد رُصّعت هذه القصّة بالعديد من المعطيات التاريخية التي وُظّفت فنيًّا، مثل ذكر أسماء العلماء والفقهاء الذين كانوا يدورون في فلك السلطة، في سنة 926، إبّان خلافة عبد الرّحمَن الثالث وابنهِ الحكم الثاني، لتُصوِّرَ في نهاية المطاف الفراغ الدائم بين التعطّش للسّلطة (الذي جسّده الوزير أمير) وَالرغبة الجامحة فِي اكتسابِ المعارف دون حدود والحفاظ عليها لنقلها وإيصالها لطالبيها، كما اجتهدت في ذلك هذه القافلة - المَكتبة.

الصورة
قافلة كتب في قرطبةـ غلاف ـ القسم الثقافي
من صفحات "قافلة كُتب من قرطبة"

يتنزّل هذا العمل، إذاً، ضمن مجهودات إثراء النقاشات وإعطاء صورة مغايرة عن الإسلام وثقافته حتّى لا يُختزل هذا الأخير إلى أعمال إرهابيّة مُنفردة، لها جذورٌ اجتماعيّة واقتصاديّة، ويكون بذلك المتطرّفون قد نجَحُوا في مَساعيهم إلى تشويه هذا الدين. وَهو مَا تسبّب في خلط مفهومي خَطير تمثّل في الحديث عن الإسلام، على مدار الساعة، من دون معرفة حقيقيّة بماضيه العِلمي ولا إسهاماته الكبرى للبشرية بِأسرها. إذ تتوالى صفحات الكتاب ورسومه ناطقِة بشهادةِ حُبّ للكتُب، ولا سيما العقلية مِنها، حتى تظلَ سائرةً في الآفاق مغذّيةً للعقول.

ولا ندري هل أحسّ كاتب السيناريو بضربٍ من التناقض في مقاربته، حيث أكّد أنّ رجال الدّين هم الذين طالبوا الوزير بإحراق أربعمئة ألفِ مَخطوطِ تتراصف في مكتبة قرطبة، وحيث بنى الحبكة كاملةً على فَرار طريد بعد أنْ تبعتْهُ لبنى ومروان، وكأنّ المعارف العقليّة، التي خاض فيها كبارُ علماء الكلام وَالفقهاء، مقصورة على الفئات الاجتماعية المهمّشة (مخصيّ، لصّ وناسخة سوداء البشرة) وأنها لا تتلاءم ــ جوهريًّا وبِنيويًّا ــ مع تلك المعارف.

ولا يَسعُ المتابعَ العربيّ إلّا أنْ يأملَ في أنْ تؤدّي مثل هذه الأعمال ــ رغم أسلوبها التبسيطيّ الضّاحك ــ في تغيير الصورة النمطيّة السلبية عن الثقافة العربية الإسلامية في الأوساط الفرنكفونيّة. فالقصّة ثريّة بالتفاصيل حول الخلافة الأندلسية التي اقتبست من كتب التاريخ. والمخطوطات التي أعاد طارق نسخها وما فيها من معارف ورياضة وفلسفة وفنون، هي التي ساهمت في تقدم العلوم الإنسانيّة قبل أن يلج الغرب ما يسمّيه عصر أنواره. فهذه القصّة المصوّرة، ومِن التاريخ نسْغُها، مَديحٌ للمعرفة العربيّة، التي حملتها شخصيّات لذيذة، رسمها المؤلّف بكلماته والرسّام بريشته.

صفحات الحكاية ورسومها تنطق بشهادة حُبّ للكتب والمكتبات

كما لا يَسعُ هذا المتابعَ، أمام هجمة الخطابات المعادية التي تغذّيها أحزاب اليمين المتطرّف، إلا تشجيع مثل هذه المحاولات التي تُظهر، ولو جزئيًّا، الصورة الحقيقيّة لثقافة الأندلس، وحبّذا لو تبعتها حلقاتٌ أخرى عن عواصم البحث العقلي المنتشرة على طول "دار الإسلام" وعرضها، كبغداد وَالكوفة والقيروان ودمشق وجرجان والريّ وعشرات من المدن والأمصار غيرها التي أسهمت ــ كما يُسهم اليوم الكثير من المثقّفين العرب ــ في تشييد الحضارة الكونيّة، عبر نتاجهم العقليّ والأدبيّ والذي يُقابَل آليًّا ــ في ضرب من التضادّ السطحيّ ــ بينه وبين التراث الديني، فلم يكن كلّه تقييدًا للعقل حتّى يُهرَّب منه على بغلٍ لحمايته وإنقاذهِ من براثن السُّلطة.

وتجدر الإشارة، ختامًا، إلى غياب هَذا الجنس التأريخي الثقافي فِي نُصوص الرسوم المصوّرة العربيّة، والتي ظلّت حَبيسَة فنّ الإضحاك وَالتسلية، ولم يُعْبَر بها إلى ضفّة النقد الجادّ ــ عدا محاولاتٍ نادرة ــ لِمَا في مجتمعاتنا العربية من ظواهر فكريّة والإسهام في مناقشة قضاياها الأخرى. كما أن الاستعانة بالتاريخ وَأحداثه وَشخوصِهِ ورموزه ستمدُّ هذا الجنس الفتيّ بمادّة ثريّة تعطي تلك الرسوم عمقًا تاريخيًّا إضافيًّا، وستصل الحاضر بالماضي.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون