"سمٌّ في الهواء" لجبّور الدويهي: آخرُ كلمات الروائي

25 يوليو 2021
(جبّور الدويهي في رسمة لـ بطرس المعرّي)
+ الخط -

لا نصل بسرعة إلى تميُّز النمط الروائي لرواية جبّور الدويهي الأخيرة، "سمٌّ في الهواء"، الصادرة عن "دار الساقي". نلاحظ في البداية تجنّب الروائي، الذي رحل عن عالمنا أوّل أمس الجمعة (1949 - 2021)، للتسمية؛ تسمية الأشخاص وحتى تسمية الأماكن. حين يسمّي الراوي فندقاً في المدينة، "بيريت سور مير"، ننتبه إلى أننا قلّما وقعنا على أسماء. ستكون للجميع أوصاف أو كنايات بدل أسمائهم، هناك الأب والأم والعمة والخالة، لكن في المقابل لا نعرف اسم شهيد منظمّة التروتسكيين العرب، ولا اسم السبعيني في الفندق، ولا اسم صاحبة الفندق ولا اسم معلّمة الفلسفة، ولا اسم الآشوري.

لبعض هؤلاء أدوارٌ في الرواية، لكن ليس لهم اسم. يمكننا لذلك أن نسمي "سمّ في الهواء" رواية اللا مُسمّين. ليست فقط حكاية أسماء، فالرواية التي هي أخبار الراوي غير المسمّى، لا تزيد عن كونها أخباراً تنتهي في مكانها وزمانها، بدون أن تترك عواقب تتردّد بعدها، وبدون أن تبقى منها علاقات متّصلة. تبدأ الرواية بهذه الحرب الموصولة في البلدة، ليست حرباً حقيقية، إنها ساحات قصف وضحايا؛ مع ذلك، فإن الراوي يغادر بدون أن يبقى لهذه الحرب أثر أو عاقبة في ما استجد بعد رحيل الراوي عن البلدة.

في الرواية هناك التوأم اللتان تصله علاقات حبّ وجنس معهما، هاتان لا نعرف جيداً ماذا حلّ بهما في نهايات الرواية وماذا كانت مصائرهما. نعرف أن إحداهما ماتت، لكنّ حكايتهما مع الراوي لا تتّصل ولا نعرف لها عاقبة أو خلاصة، لا نعرف أيضاً مآل منظّمة التروتسكيين العرب؛ لقد استشهد البارز فيها لكن ماذا بعد هذا الاستشهاد؟ ستمرّ المنظّمة في تاريخ الراوي ولن تزيد على أن تكون له تاريخاً، فالوقائع - وهي في معظمها أو كثير منها كبيرة وجامعة - تُتناول في هذه الرواية كتواريخ خاصة وشخصية.

عمل يُذكّر، من بعيد، بأساليب كتابة التاريخ في التراث

فالرواية التي تبدأ بأحداث عاصفة في البلدة، لا تلبث أن تنتقل إلى أحداث عاصفة وإلى حرب أهلية في البلد كله، بدون أن تتعدّى مع ذلك يوميات الراوي ومذكّراته، وبدون أن تبدو أكثر من تفاصيل وقتية في السيرة الخاصة للراوي. لا تظهر أكثر من ذلك حتى حين يشترك هو في أحداث جامعة. حين يعمد الراوي إلى إطلاق النار على الحافلات، لا نفهم موقعه وصلة ذلك بالحرب الأهلية التي شملت البلد. لا نعرف ذلك ولا نرى عواقبه وآثاره ونتائجه، حتى حين يتحوّل إلى انفجار عام كمجزرة السيارات التي تحدث حين اندلعت النار في حافلة. لا نعرف إذا كان ذلك جزءاً من الاقتتال الأهلي، ولا نجد له آثاراً ونتائج، فهو يُطوى كما تُطوى الحرب بكاملها ويتحوّل فحسب إلى خبر شخصي.

الصورة
سم في الهواء

ستكون حياة الراوي، بطل الرواية، كلّها على هذا الغرار. لن يكون زواجه من معلّمة الفلسفة مختلفاً عن ذلك. لقد خرّبت المعلمة المجسّم الذي صنعه وانهال هو بالضرب عليها، لكنّ القصة التي بدأت بعلاقة لن تكون هي الأخرى سوى خبر، لن تكون نهايتها مختلفة. نعلم أن المعلّمة تديّنت بعد هذا الحادث ثم تزوّجت آخر بعد أن هجرت تديّنها. لن تكون قصة صاحبة الفندق شيئاً آخر، ولن نعرف كثيراً عن السبعيني الذي توفي، والآشوري وابن الخالة. كلّ هؤلاء يمرّون في حياة الراوي ويتركون فيها أخباراً بقدر مرورهم. فالرواية، رغم أنها تجتاز أحداثاً ودمارات وحروباً، ورغم أن بطلها لا يبقى بعيداً عن هذه العواصف، إلّا أن العاصفة تقدّم نفسها كجزء من سيرة، كأخبار يومية لبطلها، تنتفي منها كلّ فظاعتها وكلّ دمويتها وكلّ عنفها وكلّ مداها ومساحتها، لتتحوّل إلى مجرّد سيرة وإلى مذكرات وتفاصيل يومية في حياة خاصّة.

يمكننا من هنا أن نطل على أسلوب رواية جبّور الدويهي وعلى مبناها. ثمة في الرواية هذا الميل إلى خصخصة الخارج، خصخصة العام والجامع والعاصف، وتحويله إلى حدث خاص وشخصي. أي أن الأسلوب يعمد إلى نوع من موضعة هذا العام، وإخماده جزئياً وشخصنته. ثمة كتابة تذكّر، من بعيد، بأساليب كتابة التاريخ في التراث العربي، أساليب يبدو فيها التاريخ أخباراً وروايات تقريرية وشبه أرشيفية. رواية جبّور الدويهي التي تتناول ظروفاً وأحداثاً عاصفة ودموية وفظيعة، تتناولها وترويها وقد انطفأ عصفُها وزالت دمويّتها وفظائعها، وبقي منها ما يمكن سرده كأخبار وتواريخ تُقال وتستعاد بلغة تقريرية، بلغة ليست سوى أصداء من السيرة الخاصة، سوى مذكّرات شخصية. يمكن، هكذا، استدعاء ما يبدو قريباً من كتابة اليوميات والمذكّرات، ما يتحوّل معه التاريخ إلى سيَر وإلى مذكّرات ويوميات.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون