هناك اعتقادٌ سائدٌ بأن الإيكولوجيا حقلٌ معرفيّ حديث، نظراً لكون القضايا التي يدرسها - عِلمياً وفكرياً - حديثة نسبياً، مثل التلوّث البيئي والتغيّرات المناخية المفاجئة والنضوب الديمغرافي لبعض المناطق والضغط على مناطق أخرى. غير أن الإيكولوجيا - ولو لم تتسمّ بهذا الاسم بشكل ثابت إلّا في القرن العشرين - كانت حاضرة كوعي وكهاجس لدى عدّة مفكّرين يسمّيهم المؤرّخ الأميركي دونالد وُرستر (1941) بـ"روّاد الإيكولوجيا"، وهو عنوان كتابه الصادرة ترجمته الفرنسية مؤخّراً في سلسلة الجيب لدى منشورات "أرتو".
يُعَدّ هذا العمل من كلاسيكيات الفكر الإيكولوجي، وتحديداً تاريخِه، ويمكن أن نضعه ضمن طيف واسع من الأبحاث والمؤلّفات التي حاولت تحديد أصول فكرة الإيكولوجيا، مرّةً بالعودة إلى تاريخ ظهور المصطلح، ومرّات بالعودة إلى مفكّرين تقاطعوا مع علاقة الإنسان بالطبيعة مثل جان جاك روسو وكارل ماركس. ولم تخلُ حتى ثقافتنا العربية من هذه الجهود، إذ نجد كثيرين يُرجعون تبرعُم الفكر الإيكولوجي إلى مقدّمة ابن خلدون.
بالنسبة إلى ورستر، فإن للإيكولوجيا أبَويَن؛ أب فكريّ هو هنري ديفيد ثورو، وقد وسم المؤلف تصوّراته بـ"الإيكولوجيا الرومانسية"، وأب عِلميّ، هو تشارلز داروين، وهو مُطلق "الإيكولوجيا المتشائمة"، تلك التي تبدو أقرب إلى أفلام نهايات العالم.
لكنّ الكتاب ليس اختزالياً بحيث يختصر انبلاج الفكر الإيكولوجي في اسمين يطمئنُّ إليهما، بل على العكس، تكمن قيمته في محاولته رسم مرحلة ولادة هذه المعرفة الجديدة باعتبارها شبكة من التفاعل بين الأشخاص والمجتمعات؛ فبدون وعي جماعيّ، أو بعبارة المؤلف: "جوّ من التحفيز الثقافي العام" حول قضية البيئة، ما كان ليظهر حسّ إيكولوجي.
حدث ذلك بحسب ورستر في عصر الأنوار، عصر انفلات المخيّلة المعرفية وطَرْق مشاريع كانت تبدو مستحيلة منذ بضعة عقود. في ذلك القرن الثامن عشر، ظهر، بحسب المؤلّف، نسيجٌ من المفاهيم مثل التوازن والوفرة والترابط والحالة الطبيعية ستكون أرضيّة خصبة لتبلور مشروع بناء حقل معرفيّ جديد هو الإيكولوجيا.
ظهرت الإيكولوجيا كعقل يحاول أن يتدبّر جنون عصر التصنيع
يعيد المؤرّخ الأميركي وضع اللبنة الأولى في هذا المشروع إلى شخصية غير معروفة كفاية في الثقافة العامة اليوم، جيلبير وايت، وهو قاضٍ من بلدة سيلبورن جنوب إنكلترا، كانت له مجموعة من الهوايات الفردية الطريفة، منها محاولة دارسة أثر الانتقال بين الفصول الأربعة والبحث في منشأ التسميات، وهي أشكال من الهواية كانت دارجة وقتها (مثلها مثل دراسة اللغات الميتة وجماجم الشعوب البعيدة)، لكنّ قليلاً منها قد تزامن مع منعطف تاريخي خطير، ذلك أن إنكلترا آنذاك كانت تعيش على وقع عاصفة ستغيّر مشهدها إلى الأبد.
كانت الثورة الصناعية في بداياتها، وقد أخذ الهدوء الراسخ لأقاليم برمّتها يتفسّخ بالتدريج، وحين وضع وايت كتابه "التاريخ الطبيعي لسيلبورن" (1789) لم يكن يعلم أنه سيترك أثراً سيؤرّخ به دونالد وُرستر ظهور أوّل وعي مباشر بضرورة صعود عقل يتدبّر الجنون الذي دخلته البشرية مع عصر التصنيع. تفطّن وايت إلى أن الطبيعية، مثلها مثل معمار مدن الحضارات القديمة، مهدّدة بالاندثار ما لم تجد الرعاية الكافية، وأن هذا الاندثار تدريجيّ، وبالتالي فإنّ كتابة تاريخ طبيعي بات واجباً، فبعد عقود لن يكون الريف البريطاني كما كان، وبعد قرون لن يبقى أي ريف كما كان في أي مكان من العالم.
يرّى المؤرّخ الأميركي أنه، في نفس الفترة، وضمن نفس الوعي تقريباً (محاولة مسك العقل العِلمي بمِقود عربة التاريخ البشري)، ظهرت مشاريع علوم مثل الاقتصاد وعلم الأحياء، وهي علوم وجدت الطريق سالكةً للتبلور بسرعة بسسب الحاجة إليها من قبل مراكز القوى، وعلى وجه التحديد الدول ورؤوس الأموال. ولمّا كانت الإيكولوجيا في طورها الأول أقرب إلى مرثية مبكّرة، كان من الطبيعي ألّا يقف وراءها الداعمون والمموّلون، فلم تتحوّل إلى قطاع اجتماعي يستقلّ بذاته، وهكذا لم يبقَ لها سوى أن تتخفّى في علوم أخرى، لتظهر ضمن انشغالات داروين العِلمية، أو أن تتحوّل إلى يوتوبيا، كما هو الحال عند ثورو.
لولا صعود المعرفة العابرة للتخصصات لما كُتب تاريخ البيئة
من أطروحات كتاب ورستر حضورُ ما هو غير حداثي كعواملَ مغذّية للإيكولوجيا باعتبارها إفرازاً معرفياً لعصور الحداثة، حيث يُظهر طوال كتابه أثرَ الخلفيّات الدينية للمنظّرين الذين يذكرهم، وهي مؤثّرات المعتقدات التي نشأوا عليها (الأدبيات المسيحية تحديداً، والتي يمكن بسهولة تطويعها للخطاب الإيكولوجي)، وأيضاً بحثهم في ثقافات أخرى عن مرتكزات فكرية، إذ كثيراً ما تقاطعوا مع ديانات شرق آسيا. وبشكل عام، يُثبت ورستر أن الفكر الإيكولوجي مدينٌ في تطوّره لإيمان الروّاد بأفكار مثالية ونماذج طوباوية كانت تحرّكهم نحو أهداف لم تكن واضحة في زمنهم، فهي لا تنتمي إلى الحِسّ المشترك، ولا تتوفّر حتى المفردات الكافية لشرح أطروحاتهم، وقد أنتج ذلك طيفاً من الخطابات المتجانسة، من الفلسفة إلى العلوم المجرّدة، وهو ما يعقّد مهمّة كلّ مَن يحاول التصدّي لتاريخ الفكر الإيكولوجي.
بعيداً عن موضوعه المباشر، أي تاريخ الإيكولوجيا، يمكن النظر إلى كتاب وُرستر على كونه محاولة في فهم كيف تتبلور الحقول المعرفية؛ إنها في النهاية كائنات تاريخية تتطوّر عبر الزمن وتحتاج إلى شروط حياة كثيرة كي تستمر، كما أنها يمكن أن تعاني من النبذ والتهميش، ويمكنها - ضمن ظروف مختلفة - أن تزدهر مثلما تزدهر البلدان والمدن.
من منظور آخر، يفسّر الكتاب، وهو يتناول تاريخ الإيكولوجيا، لماذا ظلّ هذا النوع من الكتابات نادراً. طوال فصول كتاب "روّاد الإيكولوجيا" سنعرف كم هو مفلتٌ هذا التاريخ، فنحن مرّة نتحدّث عن منجز عالم نباتات مثل كارل فون ليني، وحين يُستدعى لا بدّ من إضاءة بيئته في السويد، ومرّة يأتي ذكر نصوص هنري ديفيد ثورو، ولا بدّ في وقتها من معرفة شيء عن سياقاتها الأدبية والفكرية. إذن، في كلّ خطوة من كتابة تاريخ بدايات الإيكولوجيا، يجد المؤرّخ نفسه مضطرّاً للسفر بعيداً، في جغرافيات متنوّعة وفي حقول معرفية متباينة، ولعلّ التعقيد الواضح في مسار هذه الأسفار هو ما يفسّر صعوبة كتابة تاريخ الإيكولوجيا، فمادته تقع في تواريخ فضاءات كثيرة، ويمكن أن نستنتج هنا أنه لولا صعود نزعة المعرفة العابرة للتخصّصات لَمَا كان من الممكن كتابة هذا النوع من المادة التاريخية.
يتوقّف بحثُ وُرستر عند أربعينيات القرن الماضي، فما بعدها يسمّيه بـ"العصر الإيكولوجي" (ومنه عصرنا اليوم)، ذلك الذي تحوّلت فيه الإيكولوجيا إلى ظاهرة كوكبية لها فاعليّتها وثوابتها، بل إنها اليوم باتت أقرب إلى جماعة ضغط عِلمية - فكرية، كما باتت - وهي التي وُلدت متأخّرة عن بقية الحقول المعرفية - تلتهم الكثير من الحقول المجاورة، ومنها الاقتصاد وعلم الأحياء، وأكثر من ذلك أخذت موقع القاضي بين معارف وتكنولوجيات كثيرة، فأيّ بحث لا يُراعي المنظور الإيكولوجي بات منذ عقود خارج دائرة الإضافة المرغوبة للمعرفة.
تؤكّد ذلك العودةُ الكثيفة إلى كتاب وُرستر الذي ظهرت نسخته الأولى في 1977، ومن ثمّ بقي المؤرّخ الأميركي يطوّره ويشذّبه، وهو يأتي في طبعته الفرنسية اليوم في شكل كتاب جيب، زهيد الثمن، مُعتنىً بإخراجه وجودة ورقه، يحاول ترويج الفكر الإيكولوجي بشكل واضح وصريح. ويبدو كتاب وُرستر مناسباً لمثل هذا الدور الدعائيّ، وربما الدَعَويّ؛ كيف لا وهو يعيدنا إلى زمن البدايات، والبدايات أسطورية وجذّابة عادة...