عبر مدخل فلسفي عميق يشدّ القارئ، يأتي الحديث عن الفلسفة الأبيقورية، وما تمنحه من المُتع والهدوء الروحاني متناغِمة مع آلهة الرفاهية الإغريقية، التي تؤمن أنّ السعادة هي الحافز لكلّ أفعالنا، وأنّ مفتاح النص هو هذا الإرث حول السلام والرضا، الذي سيعمل الصدر الأعظم محمد باشا سوكولوفيتش طوال حياته للوصول إليه.
تعالج رواية "حمّام البلقان" للكاتب الصربي فلاديسلاف باياس الصادرة ترجمتها بتوقيع تسبيح عادل عبد السميع عن "دار العربي للنشر والتوزيع" (القاهرة،2021) موضوعاً جوهرياً يتعلّق بالهوية، وتأثير الظروف الحياتية في صياغتها وتأثيرها على الإنسان، وتختار إعادةً لقراءة التاريخ البعيد، وسردياته المليئة بالأحداث والشخصيات، مصطفيةً منها شخصيةً هامةً هي باجيكا الصربي، الذي أصبح محمد باشا سوكولوفيتش المسلم، وما يعنيه ذلك من صراع الذات مع تحوّلات الهوية، وكيفية النجاة وتحقيق السلام الداخلي.
يحدّثنا التاريخ العثماني دون مواربة عن نظام "الدفشرمة"، كأحد دعامات الدولة لبناء الجيش الإنكشاري، حيث كان الأتراك يجمعون الأطفال عنوةً من قرى البلقان، ليتمّ إرسالهم إلى تركيا، وذلك في قطيعة كاملة مع حياتهم السابقة، حيث يتم تغيير أسمائهم باعتناقهم الإسلام، ثم تعلّم اللغة ودراسة القرآن، إضافة إلى التدريب على المهارات العسكرية وفنون القتال. ولمّا كانوا حماة الإمبراطورية القادمين، فقد كانت تتم متابعتهم والاهتمام بالمتميّزين منهم لتسليمهم وظائف مختلفة. كان باجيكا الصربي في الثامنة عشرة من عمره حين تم ضمّه إلى "الدفشرمة"، وبخلاف المُعتاد في اختيار أطفال في العاشرة، تم أخذ الأكبر سنّاً أيضاً بسبب نقص الجنود بعد فتح صربيا (1521).
وكانت مأساة الفتى أنه سُحب من الدير الذي كان يعدّه ليكون عالم لاهوت أرثوذكسي، فجاء الأمر ليكون صدمة موجعة لا يخفّف منها شيءٌ. رغم ذلك تقبّل والده الأمر متأمّلاً بأن ابنه سيتولى مناصب مهمة في الدولة، كما حدث مع غيره. إلا أن المعاناة القاسية كانت تخصّه وحده، فهو سيغادر موطنه مخلّفاً وراءه قلبَه، محتملاً ألم الفراق الصعب، والبكاء طوال الطريق خوفاً من المجهول الذي ينتظره. فالإنسان يدخل في محنة الاغتراب، حين يُقتلع من جذوره ويصبح كائناً بلا روح، يخضع لسلطة القوّة التي تملك أقدار الناس وتتحكّم بحياتهم.
لم يغادر الكاتب التاريخ إلا ليواكب عصره بنسق جمالي
لم يكن باجيكا طفلاً صغيراً يسهل رسم صورة جديدة له دون عناء. كانت قماشة روحه قد فُصّلت هناك، وغدتِ الهوية وطنه، لكنه الآن في وطنٍ جديدٍ، يواجه الارتباك الوجودي في فهم الذات حين يتم استبدالها بهوية أُخرى، وتتحفّز أسلحتُه لمواجهة ذلك، حيثُ تلعب الذاكرة بما اختزنته دوراً دفاعياً، يحافظ على الماهية ويحميها، ومع الوقت ستكون شروط الحياة مختبراً لتوليد هوية جديدة مزدوجة.
اختارت الرواية بطلاً حقيقياً، حقّق مكانة رفيعة في تاريخ الدولة العثمانية، وتتبّعت رحلته الروحية المضطربة ومحاولته للنجاة، وهو ينجح بذكائه ووعيه. فأمامه واقع جديد لا مهرب منه، ولا يملك إلا التكيّف معه وتحويله لمصلحته، وهو هنا لن يغادر الخطّ الفاصل بين الحقيقة والواقع والتوازن بين ثقافته الأصلية والثقافة الجديدة.
كانت نصيحته الأولى التي قدّمها لنفسه ولزملائه الرافضين هي التهدئة وعدم التمرّد، وأن من حقّهم الإيمان داخل صدورهم وإبقاء ذكرى موطنهم حيّة في نفوسهم. لكن عليهم مواجهة مصيرهم وتجاوز ازدواجيتهم ومساعدة بعضهم، أما سبيلهم الأوحد للمستقبل فهو الجد والجهد والتميُّز. هذا النهج لرجل واقعي شجاع عبّد له طريق النجاح، ولفت إليه أنظار السلطان الذي اختاره في مناصب بالقرب منه. مما جعل الطريق مفتوحاً أمامه لتقلُّد مناصب عليا في الدولة كمرافقة المبعوثين الأجانب ومرتبة أمير السنجق، بل وأصبح المفضّل لدى السلطان في علاقة قائمة على الاحترام والثقة. لم تصل حدّ الصداقة، لكنّها تدريبٌ من نوع ما. وفي ترقيته إلى باشا تزداد ثروته وأملاكه، ويبلغ القمّة في اختياره كصدر أعظم مرّتين، وفي مصاهرة السلطان.
هذه القمّة رافقت سيرة الإمبراطورية العثمانية في معاركها وفتوحاتها، كما في سياساتها الصادمة ومؤامراتها. كان تاريخاً مثقلاً بالدم، لم يتوان السلطان فيه عن قتل ابنه في سبيل الحفاظ على العرش، وبثّ الرعب في قلب الجميع. ورغم الخوف المتربّص بالحياة نجح محمد سوكولوفيتش أن يترك بصمته في أداء مسؤولياته. ففي معركة العثمانيين ضد الفُرس، أبهر السلطان بالجيش الذي أعدّه، واستخدم الدبلوماسية بمخاطبة حكّام المجر والنمسا والروس ليجعل التفاوُض ضمن سمات التخطيط العثماني. وعندما كُلّف بإدارة أسطول الإمبراطورية، قام ببناء السفن وتدريب الوحدات العسكرية، في وضع بدت الحروب فيه هي الشكل الطبيعي للحياة.
هكذا تكشف آلية التمايز والحضور جانباً من تجلّيات الهوية المنشطِرة، حين تقوم على تجميع شتاتها بأداء أدوارها كاملة، فهي تُمارس دينها الجديد، وتحافظ على صلتها بالموطن والأهل، وتُغدِق في الفعل وترك الأثر. كان الجسر الذي بناه على نهر درينا في مدينة فيشيغراد قد منح المدينة أهميتها التاريخية، كما خلّده الأدب في رواية إيفو أندريتش "جسر على نهر درينا"، وقدّمه هدية لموطنه. كما بنى في المدينة حمّامها الشهير الذي تُستخدم فيه المياه المعدنية التي تشفي من الأمراض، إضافة إلى بنائه العديد من المنشآت كالمساجد والمستشفيات والتكايا ومطاعم الفقراء والجسور وكذلك الحمّامات، تلك التي رأى أنّها تخلق سعادة للإنسان تفوق أي متعة أخرى، وكانت سابقاً مخصّصة لرجال الدولة فقط، وهي منشآت عظيمة تخلّده وتشعره بالتطهير والرضا وكان من شيّدها صديقه الأقرب في رحلة العمر المعمار سنان.
تحضرُ إسطنبول مع بلغراد باعتبارهما موطن تنوّع بشري
تتشابه وقائع حياة سنان المعمار أو جوزيف المسيحي مع صديقه محمد سوكولوفيتش أو باجيكا، فالاثنان مسيحيان أُخذا ضمن نظام "الدفشرمة"، لتتمّ تربيتهما كمسلمين، وتدريبهما ليكونا من نخبة الجنود بالإمبراطورية. أظهر سنان براعة في دراسته وتدريباته ليصبحَ كبيرَ المهندسين أو المعمار باشي الذي رافق الجيش العثماني في فتوحاته ليقوم بإصلاح ما تهدّم أثناء الحرب من جسور وطُرق ومنشآت. هكذا انعقدت بين الرجلين صداقة متينة زادتها ترابطاً الثقافة المشتركة والميل الفطري للمتشابه، وتحقّقت بعلاقتهما أعظم المنشآت في الدولة، حيث يعدّد التاريخ أكثر من 400 أثر في ثلاث قارات كمنجزات تبعث على الفخر بما اختزنته من علم ومعرفة وبما قدّمته للإنسان من فائدة. فالجسور ربطت بين الشعوب، والاستراحات والفنادق على طريق السفر وفّرت الراحة للناس من تعب السفر، والحمّامات أسعدت الناس فطهّرتهم، كما أسعد التشييد والبناء نفسيمها معاً.
ورغم أنّ العمل يحفر في التاريخ البعيد، ويقدّم سيرة روائية وتاريخاً تفصيلياً للدولة العثمانية، إلّا أنّ الشواهد والآثار التاريخية القائمة تعيد الاتصال المادي بهذا التاريخ، وهو ما زال طبقات تاريخية تحت البنية السطحية للمدن. ففي حيّ دورتشول في بلغراد يسكن الراوي في بيت بُني على أنقاض سوق عثماني عظيم بمصادفة غريبة، وهناك قاعة للموسيقى بنيت على أنقاض بلاط ومقرّ إقامة محمد باشا في بلغراد، أما منطقة تيرازيا فما زالت تحمل اسمها التركي ومعالمها.
يملك الكاتب فكره الكوسموبوليتي الذي يسمح بارتياد آفاق بلا ضفاف، مدركاً فضاء التنوع الذي يفرض احترامه كاحترام للذات. وتحضرُ في ذهنه المقارنة والتشابه بين إسطنبول وبلغراد كمدينتين تتميّزان بالانفتاح والعالمية باعتبارهما موطناً لتنوّع بشري كبير، ومركزاً هاماً، وتقاطعاً لكثير من الطرق في السياسة والمعرفة. وفي كلّ مرّة يزور فيها إسطنبول يبدي إعجابه بسحرها وبشواهدها الإسلامية البديعة.
ولكي يحقّق الكاتب التوازي بين نصّه وفكره، فإنه يغادر عباءة التاريخ، ليواكب عصره الحالي وكتابه، فيبيّن نسقاً فكرياً وجمالياً مختلفاً، يعاين فيه ازدواجية الهوية أو تغيّرها لدى الشعوب والأفراد، ففي أميركا ما زال الأميركيون يرتبطون بجذورهم وهوياتهم، وفي أيسلندا يحافظ الناس على هويّتهم بتعدّد الأعمال التي يقومون بها، وفي المشرق يلتقي مع الكاتب جمال الغيطاني الذي اهتمّ بالتاريخ العثماني، ولم يجد اختلافاً في تعامل العثمانيين مع الشعوب المُسلمة عن غيرها. في هذه المقاربة يحقّق الأدب رسالته، فهو يُظهر توجّه فكر الأدباء نحو الانفتاح وتقبّل التنوّع في مسار يرغب بالاعتراف بالاختلاف وتطويع الواقع نحو الأمن والسلام. وبخلاف ذلك ينغلق السياسيون على رؤاهم الضيقة وسياساتهم المتعصّبة لتحقيق مصالحهم عبر الحروب والخراب.
ويتطرّق الراوي إلى حديث الهوية والسياسة، وتحضر هنا بلاده يوغسلافيا السابقة كتجربة قاسية لحلم التعايش. كانت يوغسلافيا مصطلحاً جغرافياً انصهر فيه الملايين، وربطت بينهم هوية جامعة، ونيات طيبة لم تفلح في منع تفكّكها. كانت المغالاة في تأكيد الهوية قد أصبحت تعصباً، ويعترف الراوي/ المؤلّف - بشجاعة - بمسؤولية الساسة الصرب في ما حدث ويتساءل: ألم نلجأ إلى قتل بعضنا في بحثنا عن جذورنا وهويّتنا. كما ينتقد الحرب الأهلية الشرسة التي خاضها شعبه، والتي بدت في لحظة معيّنة كما لو أنّ كلّ رجل يقاتل لأجل قضيته، وكان القتل أكثر ضراوة من أي نوع من أنواع الإرهاب لدرجة أن الصربي خارج وطنه أصبح ملعوناً مذموماً كما حدث معه في أكثر من موقف. وفي هذه المحاكمة الواعية يؤكّد نضج الفكر أمام تهوّر السياسة.
لا تتنافى هذه الموضوعية مع فخر الراوي الشديد بشعبه الصربي، فهو من خلال الرواية يقدّم الجنود الصرب بأنهم الأفضل والأكثر عدداً في كلّ الحملات العثمانية، ويمتدح شجاعتهم وإخلاصهم، وكيف وصل منهم ثمانية إلى منصب الصدر الأعظم بمن فيهم محمد باشا سوكولوفيتش الذي اكتسب احترام الصرب في هويتيه، بينما بالمقابل قام السلطان بمنحهم سيادتهم على أرضهم، وكان أعظم ما تحقّق لهم استقلالية الكنيسة الأرثوذكسية ودورها كوطن بديل جمع الصرب وأسّس لهم دولتهم.
نجح المؤلف في بحثه عن الهوية وتحولاتها، في الدعوة إلى التفكير والتأمّل، كيف نرث الهوية وكيف نخلقها، وكيف يمكن أن تكون الهوية بناءً أو تدميراً. وفي رحلته عبر التاريخ والحاضر اعتمد بنية فريدة للرواية عنوانها كسر الإيهام بالواقع، فكانت سرديته هي الوعاء لأفكاره، عبر أسلوب يخالف النمطية، ويبتكر الحرية في الكتابة.
* كاتبة من سورية