يجمع ممدوح عزام في روايتهِ الأخيرة "حبر الغراب" الصادرة عن دارَي "ممدوح عدوان" و"سرد"، مصائر البشر والكتب معاً. يجعل من الأدب والحياة مادةً واحدة، تتشابكُ مفرداتُ العالمَين، ويصبحُ القارئ تحت تأثير التفاعل الحيّ بين ما هو مرئي ومدرَك، وما هو غير مرئي وغير مدرَك، مفتوناً بشخصياتٍ عرفها في رواياتٍ شهيرة، ومفتوناً ببشرٍ غَيّرت الكتب اعتقادهم حيالَ الحبّ والعيش.
يتّخذ عزام من المكتبة، بما تمثلهُ من التقاءٍ لعالم البشر بالكتب، محرّكاً للأحداث برمّتها. فالتخريب الذي طاولها هو الحدث الذي تمتدّ الحكاية بدءاً منهُ وانتهاءً إليهِ. والشخصيات إمّا داخلةٌ إلى عالم المكتبة أو خارجة منهُ؛ إذ لكلّ شخصية حكايتُها مع كتابٍ، استعارتهُ، ونجا من عملية السطو، أو سرقتهُ، ونجا أيضاً من عملية السطو الحزبي التي قادها لطفي الجمل، كي يتولّى دفّة القيادة في البلدة، وذهب ضحيةَ العملية القيّمُ على المكتبة فارس أبو لوز.
تبدو الحكايات التي شاركت المكتبة في صناعتها - على الرغم من إنسانيتها - هامشاً أمام حكاية المكتبة ذاتها، وقد جعل منها عزام مثالاً للأخلاق والعمل، وتعبيراً عن مجد البلدة وعن الحياة المدنية، وذلك بوضعهِ المكتبة مقابل قيم الوشاية وكتابة التقارير والارتزاق، وهي القيم التي حضرت مع الحزب، وعزّزها في المجتمع. إذ لا يغيب عن الروائي السوري الواقع السياسي الذي أنجب حكايتهُ، إذ تتخفّى السياسة في فضاء الحكاية البعيد، ولطالما كانت التغيُّراتُ الاجتماعية التي تَعقبُ الحدث السياسي مساحةَ عزام الأثيرة في الكتابة.
يضع المكتبة مقابل قيم الوشاية وكتابة التقارير
وفي هذه الرواية، يروي تغيّرات أعقبت عام 1963، ويرصدُ ما يدعوه "زمن الضبّاط". بهذا يُخبرنا، من غير أن يُصرّح مباشرةً، بأنّ المكتبة في السماقيّات هي الزمن المدني الموؤود. وما أعقبَ ضياع الكتب من شتاتٍ لشبّان القرية إشارةٌ عميقة تحاكي أسطورة برج بابل، حيثُ اجتمعَ أهالي السمّاقيّات على أسطورةٍ، هي المكتبة، ومن ثمّ تبلبلت مصائرهم بضياع الأسطورة، كما لو أنّ المطلوب ألّا يجتمع الناس إلّا على ما تنتجهُ السلطة من ولاءات.
يتناوب كلّ من توفيق الخضرا وابنه فيصل على حكاية قصّة نهب المكتبة ومقتل فارس أبو لوز، إذ يكتب الابن تعليقاتٍ على رواية الأب "المكتبة البيضاء". وعبر هذا التناوب الذي يعزّزه عزام بعباراتٍ احتمالية تخمّن الحكاية، وتبحث في احتمالاتها، تُشرك الرواية قارئها في حلّ لغزِ السرقة والقتل في تتبُّعٍ بوليسي للبحث عن المكتبة الضائعة. وتُشركه بالتالي في مقاومة زمان القحط والخوف. يستخدم توفيق ألبومات قديمة من كاميرا نازي التقط، متخفّياً، صوراً في أثناء نهب المكتبة، ويُصوّر توفيق من خلال قراءة الظلال المعتمة للسارقين القتلة، الجريمة التي تشبه قصة موتٍ معلن. وعندما يتحرّى مصير القيّم الذي اعتبر الضابطُ موته انتحاراً، إلى جانب اهتمامه بمصير الكتب، بدا أنّه ضائعٌ أمام سؤال صالح الناجي: "هل تبحث عن الكتب فعلاً أم عن قتلة الروح؟" كما لو أنّ كليهما قتلٌ، كليهما يحمل شؤم الآخر، ورعبه.
يرسم عزام شخصية فارس أبو لوز رسماً محكماً بديعاً، فهو شابٌّ مثقل بالكتب، حماسته تنيرُ الدروب، يقول عن نفسه إنّه "قارع أجراس الحرية". لقد بدا خارج حسابات البشر ومشاحناتهم، ودوداً وكثير الابتسام، يعمل في المدينة في مكتبة أستاذ كهل كي يكمل دراسته، ثمّ بعد اعتقال المكتب الثاني للأستاذ الراضي إثر سقوط ديكتاتورية الشيشكلي، يعود فارس إلى السمّاقيّات، ويصنع بمشاركة توفيق المكتبة التي ستقودهُ إلى حتفهِ. ويدفع اقتحام منزل توفيق وتفتيشه على نحو مروّع من قبل لطفي الجمل ورجال الشرطة، بالعائلة إلى الرحيل إلى المدينة حيث يترك توفيق مهنة التعليم، ويعمل في دكان.
لكلّ شخصية من شخصيات الرواية حكايتُها مع كتاب
في المدينة، تبدأ حكاية الكتب ما إن يلتقي توفيق مع فوزي النّجار، سمسار الكتب المستعملة، حيث وجد اسم مكتبة السمّاقيّات على غلاف أحد كتب الرصيف بعد سنوات من اختفائها، وكانت التحقيقات الرسمية قد اعتبرتها خيالاً، خصوصاً مع تآمر لقمان لقمان، الذي شهد زوراً أمام الضابط بعدم وجود مكتبة أساساً، وذلك مقابل "بطحة عرق"، الأمر الذي يعترف بهِ لتوفيق بعد سنوات طويلة، ويترك له لائحةً بسبعة أسماء تساعده على التذكّر.
يسرد توفيق حكايات الأسماء السبعة مع الكتب، إذ تتبدّى مهارة عزام المعهودة في التقاط الحبّ وإشاعتهِ، ويلمحُ القارئ في "حبر الغراب" النداء الخافت السرّي للعاطفة ولتعابيرها. ويمكن أن تكون هوامش الكتب التي يترك عليها العشّاق رسائلهم، وهم يتبادلون كتب مكتبة السمّاقيّات، التعبير المثالي عن أدب عزام. إذ يجيدُ الروائي السوري التعبير عمّا هو خجول ومسالمٌ ومتوارٍ من قصص الناس في مجتمعٍ بدأ يُصدِّرُ كلّ ما هو عنيفٌ واستعراضي وقاسٍ، بما في ذلك تصديره لصورة الحرب.
في الحكايات السبع التي يسردها توفيق، تلتئم كتبُ تشيخوف، ونجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، والمنفلوطي، مع قصص حبٍّ خائبة، مع حكايات موتٍ وانتحارٍ وعجزٍ وبطولة، كما تنطوي كتب طه حسين، وغوركي، على استعاراتٍ غَيّرت حياة الشخصيات. يحكي لنا عزام عن "الأم" التي تخبّئ رواية غوركي في مكان مخصّص لكتاب الحكمة، عن الزوجة التي تحاول فهم زوجها عبر قراءة ملاحظاتهِ على رواية "السراب"، وعن العاشقة التي أيقظت قراءتها لكتاب "سجن العمر" ضميرها النائم، وكانت قد حمت نفسها من الحبّ من طريق الوشاية بالمحبوب، ويحكي لنا عن عاشقَين جمعهما الحديث عن المكتبة في أكثر لحظاتهما وجداً.
لا يغيب عن الروائي الواقع السياسي الذي أنجب حكايته
وعودةً إلى حكاية المكتبة، تشير إحدى الشخصيات المتأثّرة بجان فالجان في "البؤساء" إلى أنّ "الحشود مجرمة". لكنّ الراوي يرى، في مفارقةٍ بارعةٍ ولاهية، أنّ الحشود هي التي أنقذت المكتبة من التدمير، وذلك عبر سرقتها، ولاحقاً انتشار كتبها في البيوت، الأمر الذي لاحقهُ الراوي، وقصّ حكاية الكتب المسروقة التي حيناً صنعت حياة الناس، وحيناً حطّمتها. "لطفي الجمل أراد أن يدمّر المكتبة، لكنّ الناس أخذوها. لا أعرف إذا ما كان هذا الأمر مكراً من التاريخ، أو هبلاً، أو مصادفة. ولا أعرف إذا ما كانوا قد تصرّفوا بوحي من ضمائرهم، أو وجدانهم، أو لا وعيهم الفطري، أو لصوصيّتهم وجشعهم؟ من يستطيع أن يعرف؟".
* كاتب من سورية