يتصدّى إدريس أبركان (1986) لقَضيّة الذكاء الاصطناعي الذي باتت مظاهره تتعقّب الفرد ضمنَ الحضارة الاستهلاكيّة المعاصرة وتَدفعهُ إلى أن يُسلِم مقادتَه إلى أجهزةٍ عالية التقنية، فقط لأنّها أذكى وأنجع، ونتائجها المُحقّقة أضمن. ففي كتابه الأخير، "انتصار الذكاء"، الذي صدر مؤخّراً عن "دار روبرت - لافون للنشر" والمؤلف من أكثر من 300 صفحة، ينتقد هذا الباحث الفرنسيّ، من أصول جزائريّة وإيطاليّة، كليّانية التقنيات الحديثة وسَيطرتها على الوعي الحديث.
وتندرج هذه "المحاولة" ضمن ما يُشبه السلسلة التي ينتجُها الكاتب بانتظامٍ، إذ تضمّنت ثلاثة عناوين سابقة هي: "اقتصاد المعرفة" (2015)، "حَرّروا أذهانَكم" (2016)، وهو الكتاب الذي أثار ضجّة كبيرة، و"عصر المعرفة" (2018)، هذا إلى جانب مُحاضراتٍ ومُداخلات في العديد من القَنوات الفرنسية والعربية، وهو ما يَجعل هذا الكاتب شخصاً نشطاً وجدليّاً.
ففي تواصلٍ تام مع حقله المعرفي، علوم التربية والتنمية البشرية، يشنُّ أبركان، حرباً ضروساً ضدّ هذه الأيديولوجيا الجديدة التي تمجّد التقنيات الحديثة بهدف استعباد الفرد وجَعله ذكيّاً بغَيره، لا بنفسه، قادراً بالخوارزميّات التي تتحكّم في كلّ ما يحيط به، بدءاً من قيادة السيّارة إلى الطبخ والكتابة والحساب.
ويضيف الكاتب أنّ اللجوء إلى خطاب تمجيد الذكاء الآلي هذا، ورغم ما يُسفر عنه من تحجيم لقدرات الإنسان، صار سلاحاً فتّاكاً بيَد الشركات العالمية التي تتبارى في تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي على حساب الاجتهاد الفردي والمهارات المُكتسبة بواسطة العمليات الذهنية، المعقّد منها والبسيط. وهو ما قاده إلى تناول الانحرافات الخطيرة التي تؤدّي إليها هذه الرغبات المنفلتة، كتلك التي أطلقها إيلون ماسك، في تعويض الدماغ البشري بشريحة، مثل التي نضعها في الهواتف المحمولة، لتقوم بما كان يقوم به الإنسان فتتضاعف قدراته إلى ما لا نهاية له. وفي ذلك حرف أخلاقي خطير لوجود الإنسان ومَكانَته في العالَم بوصفِه الكائن الوحيد الذي يتميّز بالحرية والمسؤولية والإرادة.
تعويض الدماغ بشريحةٍ حرفٌ أخلاقي خطير لوجود الإنسان
ثمّ أشار صاحب "حرّروا أذهانَكم" إلى التداعيات الاقتصادية لهذه التصوّرات، إذ يؤدّي الاستصغار العقلي للفرد إلى جعل الشركات تغلق مكاتبها وتلغي مناصبها وتكتم الأفواه بدعوى أنّ الآلة أذكى من الإنسان، وأنّ نتائجها أضمن وأسرع. ولاحظ أنّ استخدام هذا الذكاء، الهادف لتعويض الإنسان، يكاد يُصبح عقيدةً راسخة لدى الشركات العملاقة، غايتها أنْ يظلّ الفرد المسكين أعزل في مكانه لا يتجاوزه ولا يطوّر ذاته، بعدما بات غير قادرٍ على مُجاراة الآلة في عُشر معشار ذكائها وكفاءاتها المهولة.
وأثناء ذلك، يتفنّن القادة، من رؤساء شركاتٍ وساسةٍ وليبراليين، في استنقاص مقدرات الإنسان ويوغلون في حرمانه من ممارسة ملكاته الذهنية، وهو ما يسلبه جزءاً أصيلاً من حرّيته ويَمنعه من اللذة الطبيعيّة في إصدار الأحكام، بالمعنى الكانطي للكلمة، ومن الحركة الساعية لتغيير التاريخ، وهذه المقوّمات من أخَصّ خصائص الإنسان وكينونته.
يُذكّرنا هذا الطرح بما سبق وأن حرّره الفيلسوف الألماني هربرت ماركيوز (1898 - 1978) من تحليلاتٍ عن "الإنسان ذو البعد الواحد" (1964) وسيطرة الآلة على سائر مناحي الحياة بعدما عوّضت الحيوان والإنسان. إلا أنّ إدريس أبركان نزع منزعًا تبسيطيّاً، أقل تجريداً من سابقه الألماني، واستفاد من النظريات العصبية التي تدرس حيويات الدماغ وتحلّل ما يتضمّنه هذا العضو من مليارات الخلايا المَسؤولة عن مسارات الإدراك والفهم والتحليل والابتكار وذلك ليدافع عن طرحه الرئيسي: التذكير بأنّ الإنسان، كائنةً ما كانت حدوده المعرفية، يظلّ أقوى من الأدوات الاصطناعية التي صاغها هو بيديه، آملاً بذلك أن يقدّم للقارئ الوسائل الضرورية التي تمكّنه من الكفاح ضدّ هذه الهيمنة الكليّانية التي باتت مفروضةً على كلّ أفراد الكوكب، من أدنى عملياتهم اليومية إلى أشدّها تعقيدًا وابتكارًا. ولئن كانت هذه الوسائل التقنية تحقّق نتائج مذهلة وتنفّذ "برامِجها" بسرعةٍ لا تَخطر على بال، فإنّ أعمالها غالباً ما تقع في منطقة المحظور قانوناً وأخلاقاً. وهو ما يضع هذه "المحاوَلة" في مفترق الطرق بين الفلسفة وعلم الأعصاب والتكنولوجيا والأخلاق.
بقي أن نسأل هل ينتمي هذا الجنس من الكتابات إلى سجلّ الدّمغجة والتعميم الذي لا يراعي الوقائع الموضوعيّة أم هو صرخة مقاومةٍ وصمودٍ في وجه هيمنة الآلة والازدراء الرأسمالي للعقل البشري وذكاء الأفراد؟ أسلوب البرهنة ونبرة الخطاب وطريقة التعبير والكتابة تَجعل جميعها من هذه المحاولة أقرب ما تكون الى بيانٍ يُوجّه إلى الجُمهور، حَسب النهج الخَطابي، بالمعنى الكلاسيكي للكلمة الذي أطلقه الفيلسوف العربي ابن رشد (1126 - 1198) في "فصل المقال" ويعني به الأسلوب الذي يُهيّج المشاعر ويجيّشها، ويذكّر بمكانة الفرد في نظام العالم، لأنّ ما يطرحه أبركان ينتمي إلى مجال "التنمية البشريّة" والعَمل على الذات وتغيير التصوّرات التي تَحكمها وتنتجها ضمن منطق الصراع اليومي مع المحيط الخارجي، الأمر الذي يؤكّد الطابع النضالي لهذا المبحث.
تمجيد الذكاء الآلي سلاحٌ فتّاكٌ بيد الشركات الكبرى
فمن ذلك أنّ الكاتب أورد عنواناً فرعيّاً له، تَرجمته: "لماذا لن تعوّضكم الآلات أبداً". إلّا أنّ هذه الجملة لم ترد في صيغة سؤالٍ، بل في صيغة إثباتٍ وتحدٍّ، ممّا يدعم ما ذهبنا إليه من الأسلوب الخطابيّ، ويحمل منذ البدء الرسالة التي يودّ الكاتب تبليغَها وهي الوقوف في وجه هذه السيطرة الكلية لشرائح الذكاء الساعية إلى استبدال الطاقات البشرية الطبيعية بأخرى مصطنعة مضخمة، لا أثر فيها للبُعد البشري.
ثمّة أطرافٌ عديدة وجّهت انتقاداتٍ حادّة لهذا المُفكّر الصاعد، متّهمةً إيّاه بالسرقة الفكرية والحصول على شهادات أكاديمية بغير وجه حقٍّ، هذا فضلاً عن تَدخّلاته "السافرة" في حقول المعرفة العلميّة التي لا يمتلك الأدوات الكافية للخوض فيها، حسب رأيهم، فَضلاً عن التأليف عنها أو إبداء الرأي في مُعضلاتها الدقيقة، مثل علم الأعصاب والطب الذهني والفيزياء وغيرها من الحقول الحسّاسة. كما تتّهمه نفس هذه الأوساط بالشعبوية وتبسيط الخطاب العلمي والرغبة في ركوب الموجات لنيل الشهرة عبر النقد المُبطّن للغرب وإيمانه بنظرية "المؤامرة".
ومهما كانت حقيقة هذه الاتهامات، فالقضية التي أثارها أبركان حقيقيةٌ، وانتقاداته صادقة، والأهمّ الآن طرح حلول جذرية لا تقف في وجه التقدّم التقني الكاسح الذي لا مجال إلى صدّه، حلولٍ لا تسبح في المثالية وإنّما تعي القوانين الجديدة التي بات العقل البشري خاضعاً لها، تُيَسّر التعامل معها بواقعية تستوعبُ التحديات التي أسفر عنها الحضور المكثّف للتقنيات العالية في نسيج الحياة اليوميّة، وذلك أملاً ألّا تلتهمَ ما تبقّى من الواحات الخَضراء النادرة التي لا يزال العقل البشري يتنفّس من خلالها ويعبّر فيها عن ذاته أدبًا وفنّاً وفلسفةً.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس