باتَ من العبارات المستهلكة القول بأن "تونس بلد الثلاثة آلاف سنة حضارة". لكنّنا، وفي ما عدا محطّات معدودة مثل تأسيس قرطاج على يد الفينيقيين أو الحرب البونية التي أفضت إلى تدمير قرطاج، لا نعثر على معرفة متينة بهذا التاريخ الطويل، خصوصاً وأنّ المرحلة الإسلامية (بعد القرن السادس ميلادي) تبدو لدى كثيرين وكأنّها نقطة البداية في تاريخ تونس.
في كتابه "العصور القديمة التونسية"، الصادر بالفرنسية أخيراً لدى منشورات "نيرفانا"، يقدّم سمير عون الله هذا التاريخ الغائب نسبيّاً عن الوعي الشعبي، مستنداً إلى تضافر النص بالوثيقة التاريخية، حيث يضمّ الكتاب صورَ آثارٍ ولقىً ومخطوطات.
يجعل المؤلّف من قرطاج محورَ عمله، فحين ينظر إلى التاريخ القديم من زاويتها، يجد أن الفينيقيين جعلوا من الجغرافيا التي نجد فيها تونس اليوم مركزَ ثقَلٍ منذ تأسيسهم لقرطاج. ثم يلاحظ أنّ الرومان رأوا في هذه المدينة خطراً على خططهم التوسّعية، فدمّروا قرطاج القديمة وبنوا قرطاج الرومانية، وحين أفَلَتْ دولةُ روما اختار العرب أن يهجروا المدينة ويبنوا حذوها موقعاً جديداً لهم.
بذلك، يرى المؤلف أنّ تاريخ تونس في العصور القديمة متشابكٌ مع تاريخ قرطاج بحيث أنّ رواية أحدهما تؤدّي إلى سرد قصّة الآخر. لكنّه يشير إلى ملاحظة طريفة تتعلّق بدراسة أهمّ نقاط الازدهار في تاريخ تونس القديمة، فيجد أنها تتمثّل بلحظتين كانت قرطاج بؤرتهما، لكن يمكن القول إن قرطاج الأولى غير الثانية، فالنهضة الأولى كانت نهضة قرطاج ابنةِ صُور، أما الثانية فهي نهضة قرطج ابنة روما.
بشكل عام، يرى عون الله أنّ هوية تونس في العصور القديمة متشكّلة من هذه المزاوجة بين المرجعيّتين الفينيقية والرومانية، اللتين تمازجتا مع مؤثّرات محلية لتنتُج عن ذلك خصوصيّةٌ تمتدّ إلى اليوم، رغم وصول مؤثرات جديدة أبرزها المسيحية ثم الإسلام ودُوَله المتعاقبة.