"الساكتات" لرينيه الحايك.. إشعاعات العادي

28 مارس 2021
مقطع من لوحة "حلم" لـ صفوان داحول
+ الخط -

يستوقفنا عنوان رواية رينيه الحايك الجديدة: "الساكتات" (دار التنوير). عنوانٌ ينطوي على مفارقة محيّرة. فالرواية، بفصولها الأربعة، تدور حول نساء أربع: ميرا وليلى وسارة وندى. وكلّ من الفصول، باسم واحدة منهنّ، تدور حولها وحول ماضيها الأسريّ. فوقت الرواية ورباعيّتها هو الخروج من الأسرة إلى الحياة الخاصة، التي تعني في ثلاثة أحوالٍ من أربعة بناء أسرة من زوج وأبناء، لكنّه زمنٌ يتردّد بين الطفولة والأسرة الخاصّة. كلّ واحد من الفصول يشمل حياة واحدة وقرينها أو رفيقها وأولادها.

هكذا نعثر على ميرا وساري، وعلى ليلى وراجي ونادر ابنهما، وسارة ومارون وولديهما جوزيف ووِليَم، وندى مع عدنان وابنتيهما لينا وسونيا. إننا هكذا إزاء أربعة بيوت وأربع عائلات، لكنّ ذلك كلّه محكيّ من جهة واحدة، هي امرأة من النساء الأربع. الماضي الأُسَري محكيّ من هذه الجهة، وكذلك العلاقات مع الشريك، الذي هو الزوج في ثلاثة أحوال من أربعة. والعودة الى الماضي الأسري والعائلي الراهن والأبناء والأصدقاء والشريك، بطبيعة الحال، كل ذلك يُقال من جهة المرأة، رغم أنّ الراوي مُضمَر، إلا أنّ ذلك كأنّما يُقال أو يُروى على لسان امرأة، فليس هناك سواها.

سرد يندمج فيه النفسي والواقعي ويتحوّلان إلى أسلبة منمنمة

هناك بالطبع الشريك، وله أيضاً مكانه في الحوار والسرد، لكنّ الشريك نفسه يحضر من جهة الزوجة والحبيبة. راجي الذي هو فنّان خاسر وزوج خاسر ورجل خاسر، هو هكذا من جهة ليلى ويكاد يكون على لسانها. مارون أيضاً، الذكوري إلى درجة كما هو راجي، ولو بطريقة أخرى، هو أيضاً كذلك من وجهة سارة. وبالطبع فإن عدنان، المعالج النفسي، مختلف ومتعاون ومنضبط من جهة ندى. هناك بالطبع، في كلّ فصل، نثريات وتفاصيل كثيرة، لكنّ كلّ ذلك من وجهة المرأة. هكذا يمكن أن نعود إلى العنوان، "الساكتات"، ونتساءل: كيف يكنّ ساكتات ويُسَمَّون ساكتات والرواية بأكملها تكاد تكون من تأملاتهنّ وملاحظاتهنّ وسيرهنّ؟ ألا يبدو أنّها، على نحو ما، قد تكون جميعها على ألسنتهنّ ومن حكيهنّ، فكيف يكنّ، في هذه الحال، ساكتات؟

الساكتات

الرواية قد تكون جميعها في البيت. نحن، في معظمها، نكاد لا نغادر العائلة والبيت بهذا المعنى. إننا في العمل، لكننا حتى فيه لا نخرج عن العائلة، التي تبقى طوال الوقت موضع السرد. الماضي الأسري والحاضر الأسري هما دائماً في بال السيدة. نحن طوال الوقت في بال المرأة، وفي داخلها نحن دائماً حيال تداعياتها وقلقها ومخاوفها. نحن هكذا أمام ما تقوله لنفسها طوال الوقت، وما تحبسه في نفسها. إنها هكذا تتلقّى بصمت ما يقع عليها، تتلقّى التذنيب والتأنيب كما تفعل سارة وليلى؛ تتلقّى ذلك وتبتلعه وتعيش وتصمت عنه. إنّها هكذا ساكتةٌ حقاً، بل إنّها قد تحتجّ. ولكنّ الرجل، سواء كان أباً أو زوجاً، يحسم الموضوع ويضطرّها إلى التراجع، أي إلى الصمت من جديد لتعود ساكتةً ثانيةً.

هذا السكوت هو علامة الحياة العادية، تلك التي نصادفها في الرواية ولا نكاد نصادف سواها. الحياة يومية عادية، ليس في رواية رينيه مفاجآت، ولسنا فيها أمام تحوّلات كثيرة، بل نحن لا نجد فيها "عُقَداً" روائية من أيّ نوع؛ لا نجد تحوّلات كبيرة. نحن هنا إزاء الحياة اليومية، اليومية للغاية، الحياة اليومية التي هي، مع ذلك، في سرد رينيه، مشعّة بالتأمّلات والتفاصيل والاستدعاءات والملاحظات، التي، رغم يوميّتها وعاديّتها، تقترب من الشعر. سرد رينيه هو هنا، في هذه القدرة على استدعاء اليوميّ وعلى تحويله إلى صور، على جمعه من لوحة بسيكولوجية، حيث يتواءم النفسي والواقعي ويندمجان ويتحوّلان إلى أسْلَبةٍ منمنمة، وإلى إيقاع يتقاطع فيه الشعري واليومي في آن معاً.

رواية رينيه هي لذلك درجةٌ من إعلاء اليومي والعادي، وجمالية اليومي والعادي. إننا هنا أمام أسلوب المذكّرات وقد ارتقى إلى جمال أدبي. النسوة الأربع، ميرا، ليلى، سارة، ندى، وحيالهنّ خامسة هي راغدة، هنّ طوال الوقت نساء وما حولهنّ وعالمهنّ ورؤاهنّ عالمُ ورؤى نساء. إنّهنّ ساكتات لأنّهن كذلك. ساكتات لأنّ هذه المرأة، ولأنّ الرواية على لسان المرأة، قد تكون شيئاً آخر، قد تكون لوحة بسيكولوجية أو سكوتاً. ثمّة نِسويّة هادئة، وبوسعنا القول إنها نِسويّة شبه ساكتة، لكنّها مع ذلك تجد إيقاعاً وأسْلَبةً، أي تجد أدبها وشعريّتها.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون