"الانتقال الديمقراطي في تونس": مراجعة لعشر سنوات

14 أكتوبر 2021
محمد بن سلطان/ تونس
+ الخط -

عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدر حديثاً كتاب جماعي بعنوان "تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس 2010-2020: معضلات التوافق والاستقطاب"، والذي يضيء تجربة مرتبكة أحياناً ومتعثّرة أحياناً أخرى خلال عشر سنوات، لكنها تمكّنت بالتدريج من فتح ورش متعددة لبناء هذا الانتقال عبر سنّ دستور رسّخ حقوق الإنسان والحريات العامة والفردية ودعّم أركان الدولة المدنية وأتاح لمختلف النخب السياسية التداول السلمي على السلطة. 

ويوضّح الكتاب الصادر ضمن سلسلة "دراسات التحول الديمقراطي" كيف استطاعت التجربة توسيع قاعدة المشاركة السياسية وتنظيم التنافس الانتخابي حتى استوى المعمار السياسي للتجربة قائمًا. وقد جرى ذلك كلّه بالتوازي مع ترتيب العلاقة مع ماضي الانتهاكات أملًا في المصالحة.

ويشير أيضًا كيف ظلّت الخطوات المقطوعة متعثرة؛ إذ أخفقت جلّ النخب السياسية المتعاقبة على الحكم إخفاقًا ذريعًا أحيانًا، حين عجزت عن تلبية تطلعات فئات اجتماعية واسعة: سكّان دواخل البلاد وأريافها وشبان أحزمة المدن المهمّشة، في الشغل والتنمية والخدمات الاجتماعية، ما غذّى مشاعر الحرمان والإحباط التي ستظل خزّانًا قابلًا لمختلف أشكال الاستثمار على نحو يهدد التجربة برمّتها.

عجزت التجربة عن تلبية تطلعات فئات اجتماعية واسعة

يذهب عبد الوهاب بن حفيظ، في الفصل الأول، "على أبواب الوضع الدائم: رؤية مقارنة بشأن تثبيت المسار الديمقراطي في تونس"، إلى أن تونس بنجاحها في تنظيم الانتخابات التشريعية والرئاسية والبلدية في المدّة 2014-2016، لم تثبت انتصار الأحزاب والقوائم المستقلّة فيها، بقدر ما أثبتت انتصار ديناميات التغيير في تجربتها المتراكمة.

أمّا حافظ عبد الرحيم، فاختار في الفصل الثاني، "تجربة التوافق في تمثلات النخب التونسية: الخيارات والتحالفات والتنازلات"، أن يقارب، من زاوية سوسيولوجية مفتوحة، ما تشهده تجربة تونس في الانتقال نحو الديمقراطية من تحوّلات تراوح بين النجاح والفشل في إعادة هندسة المجال السياسي الانتقالي باعتماد آلية التوافق خيارًا سياسيًا، وربّما مجتمعيًا أيضًا. 

وانخرط عبد الرزاق المختار، في الفصل الثالث، "دستور الانتقال: توتّرات التأسيس وتأسيس التوتّرات (في الانتقال غير المكتمل)"، في ما سمّاه "الظاهرة الانتقالية" في أبعادها العامة والتفصيلية في دراسات فقه الانتقال. وهي دراسة عادةً ما يُقبل عليها الباحثون في القانون الدستوري والعلوم السياسية؛ إذ تناولها من زاوية تركّز أساسًا على البحث في التمخّض الدستوري (دستور 27 كانون الأول/ يناير 2014 )، ضمن مقاربة لا ترصد الثابت ضمن المكتسب الدستوري، كما هو دارج في تناوله، بل تلتمس أثر الانتقال فيه، وحتى تجاوزه، وهي رؤية للدستور تولي التوتّرات النصّية التي تُبقي النص (الدستور) متحرّكًا والانتقال غير مستكمل، أهمية قصوى، في انتظار تأويلات تتمّه ويُرتَجى منها عادة أن تكون ديمقراطية، أو تعديلات مشوبة بالحيلة السياسية ورهينة الهاجس السلطوي.

غلاف الكتاب

أمّا الفصل الرابع، "الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية ومنوال التنمية" لمعزّ سوسي، فهو دراسة دقيقة لمنوال التنمية ومسارات نسق النمو على الأمدين الطويل والمتوسط اللذين عايشتهما تونس منذ الاستقلال. وتبيّن للباحث أن النسق المرتفع نسبيًا للنموّ، خصوصًا في فترات ما قبل الثورة، لم يكن كافيًا لتحقيق التطوّر والاستقرار، بل كان الاقتصاد يعيش مشكلات عدّة، أهمها بطالة مرتفعة وتفاوت جهوي وانخرام على مستويات المالية العمومية والميزان التجاري. 

وفي الفصل الخامس، "العدالة الانتقالية في تونس: المسارات والمآلات"، يرى شاكر الحوكي أنه بعد مضي أربع سنوات على عمل هيئة الحقيقة والكرامة، بات التساؤل عن أفق تحقق العدالة الانتقالية في تونس ونجاحها مُلحًّا أكثر من أي وقت مضى، بل إن التساؤل نفسه قد يأخذنا إلى المربّع الأول بخصوص جدوى اعتماد خيار العدالة الانتقالية بوصفه أمثل الخيارات. 

يسعى الكتاب، من خلال فصوله الخمسة، ليقدّم مداخل متعددة ربما تعيّن القارئ العربي عمومًا في فهم طبيعة الانتقال الديمقراطي الذي تمرّ به تونس؛ فهو انتقال يترسّخ على المستوى السياسي بفضل توطيد الحقوق الأساسية للمواطنين وتوسيع مساحات الحرية والمشاركة السياسية وتثبيت التداول السلمي على السلطة وبناء دولة المؤسسات والقانون. لكن تبقى الساق الثانية التي تؤمّن السير قُدمًا في هذا الانتقال مربَكة، ومغلولة أحيانًا بسبب الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي أخفقت تسع حكومات في تذليلها، بل قد تكون هذه السياسات المتّبعة في معالجتها سببًا في تفاقمها، بحسب بعض الآراء. وما كان لهذا الانتقال أن يسلم لولا قدرة النخب التونسية على بناء توافقات، وإن كانت هشّة. لكن سيكون هذا التوافق عرضةً للانتكاس كلما ضغطت تلك العراقيل الاقتصادية والاجتماعية على النخب ذاتها تحت ضغط العنف والاحتجاج بأشكاله كلها في سياق لم تسترجع فيه الدولة قوّتها الضرورية حتى تقاوم الاقتصاد الموازي والتهرّب الضريبي وموجات العنف التي تراجعت، لكنها تبقى مهدِّدةً الانتقال الديمقراطي.
 

المساهمون