"أنطولوجيا الديستوبيات": كوابيس لم تغادر طفولتها

16 مارس 2021
آني ألبرز / ألمانيا
+ الخط -

نعتقد أمام عنوان مثل "أنطولوجيا الديستوبيات" بأنّنا سنطالع مجموعةً من نصوصٍ أدبية تصف عوالم كابوسية قد ترافقها بعض التعليقات والتبويبات وتكون مثل معجم لما أنتج ضمن هذا الفضاء الأدبي. هكذا كما جرت العادة في الأعمال التي تُسمى بـ أنطولوجيات. بيد أن مؤلف الكتاب، الباحث الفرنسي جان بيير أدروفون، قد اختار بُنية مختلفة تماماً لعمله الصادر عن منشورات "فانديميير" (2020) مع عنوان فرعي "عوالم كريهة في الأدب والسينما".

يقترح المؤلّف خطوطاً عريضة ليقسّم هذه "القارّة الأدبية"، معتمداً على مفهوم الثيمة الأدبية، بوصفها موضوعاً نتبيّن ملامحه من خلف مجموعة الثوابت السردية من حكاية وشخصيات وأطر مكانية وزمانية. وقد نجح بهذا التقسيم الجديد أن يصل بنا إلى نفس النتيجة التي تقدّمها الأنطولوجيات وهو اقتراح تركيب لمشهد في مجموعة من الاختيارات.

ومن خلال هذا التقسيم، يدرس أدروفون تارةً ديستوبيات الديكاتورية، فيشير إلى خصائصها ومرجعياتها وأبرز أعمالها، ويتناول في فصل لاحق ديستوبيات الروبوتات بنفس المنهج، ومن ثم ينتقل إلى ديستوبيات الكوارث الكبرى. هكذا، نقلّب صفحات الكتاب متنقّلين من أعمال قامت باستشراف ظاهرةٍ عِلمية إلى أخرى تفترض نتائج واقعية لمؤشرات ديمغرافية أو إيكولوجية في عالمنا الحاضر، إلى آخره من التقليعات التي ظهرت ضمن "أدب الديستوبيات".

لا يفوت أدروفون أن يحدّد ما يعنيه مفهوم الديستوبيا وأسباب استثماره إبداعياً، ملاحظاً في الأثناء أن نقيضه ــ اليوتوبيا ــ يتمتّع بتاريخ طويل، منذ "جمهورية أفلاطون" على الأقل. أمّا الديستوبيا، فبقي ينتظر حتّى اعتراف كتّاب القرن التاسع عشر به، ولم يُكرَّس بشكل لا يقبل الجدل إلّا في الثلث الأول من القرن العشرين.

انتزعت الديستوبيا الاعتراف الأدبي بفضل "أحسن العوالم" و"1984" 

ينشغل الباحث الفرنسي بفهم إشكاليّةٍ دقيقة متعلّقة بتحوّل الديستوبيا من مجرّد نموذج افتراضي لبناء أعمال تخييلية (يكفي أن نذهب بأسوأ السيناريوهات إلى أقصى نقطة) إلى حقل أدبيّ يجذب الكتّاب في مرحلة أولى، والقرّاء ثانياً، ومن ثم يبدأ التفاعل بين أولئك وهؤلاء، برعاية الناشرين والنقّاد والصحافيين، وهو ما يفضي إلى استقلالية فرع أدبيّ عن مجمل الفضاء الأدبي.

يعتبر أدروفون أنه، بدايةً من القرن التاسع عشر، أصبح للديستوبيا كل المؤهلات لتسيّج مجالاً أدبيّاً جديداً. إذ، بنقدهم لأسس المجتمع المعاصر، مهّد الرومنطيقيّون لها الطريق، على الرغم من كونهم جعلوا من الطبيعة ملاذهم واختلقوا من الماضي ملجأ يفرّون إليه من الواقع. لاحقاً، سيواصل هذه المهمّة الفوضويّون والشيوعيّون وكلّ مناهضي المنظومة القائمة. لقد فتحوا الطريق للخيال كي يفكّر، بحريّة، بعوالم أقرب إلى الكوابيس.

كلّ ذلك لم يكن سوى تمهيدات لأدب الديستوبيا. يرى أدروفون أنّ مساحة أدبية مستقلّة لا يمكن تبيُّنها من دون علامات واضحة، والمقصود أعمال شهيرة يستقرّ من خلالها المفهوم وتتحوّل إلى نموذج يُعيد إنتاجه. فمثلاً، دون أعمال أغاثا كريستي في الأدب البوليسي، وروايات جول فيرن في الخيال العلمي، كان هذان الفرعان الأدبيان سيظلان مجرّد أطروحة نظرية.

لعبت رواية "أحسن العوالم" لـ ألدوس هكسلي هذا الدور منذ صدورها في 1931. قبلها يمكن الحديث عن حضور الديستوبيا في الأدب، لكن لا يمكن استعمال عبارة "أدب الديستوبيا".

الصورة
أنطولوجيا

ومثلما لا يصنع الربيعَ طائرٌ واحد، فإن الاعتراف بالديستوبيا أدباً لم يتحقّق بشكل نهائي إلّا بعد نحو عقدين، حين ظهرت رواية "1984" لـ جورج أورويل، والتي لعبت شهرتُها دوراً كبيراً في انتزاع شرائح من جمهور فروع أدبية أخرى. كما يشير أدروفون إلى عامل جديد ساهم في تكريس الديستوبيا، وهو السينما، إذ بوصولها إلى جمهور أبعد من القرّاء وُضعت الديستوبيا في نقطة اللاعودة فوق خارطة المُيولات الجماهيرية.

عبر المشهد الذي يرسمه طوال عمله، يشير المؤلف إلى أنّه من الممكن القول بأن أدب الديستوبيا لم يعرف إلّا طفولته حتى يومنا هذا، فعالمنا مؤثّث بكل ما يحتاجه كاتبٌ من عناصر كابوسية، حيث يكفي أن ينظر حوله ليرى أنظمةً متجبّرة، وآلاتٍ منفلتة، ومبانٍ بلا روح.
 

المساهمون