"أكاذيب الليل" لـ بوفالينو: نسجٌ إيطالي على ألف ليلة

04 سبتمبر 2022
جزوالدو بوفالينو في منزله بمدينة كوميسو في جزيرة صقلّية، آب/ أغسطس 1987 (Getty)
+ الخط -

"أكاذيب الليل" رواية للإيطالي جزوالدو بوفالينو، صادرة عن "دار الرافدين" (2021)، وحاصلة ــ كما يرد على الغلاف ــ على جائزة "ستريغا"، المجهولة لنا. لا تحيّر الجائزة فحسب، بل يحيّر أيضاً اسما المترجمين، لولا أن الترجمة، في الحقيقة، متينة ومجتهدة. المُترجمان ــ كما يذكر الغلاف ــ هما بسّام حجار وأمارجي.

بيد أن السؤال يقفز حين نعلم أن بسام حجار توفي من قرابة عقد من الزمن، وترجماته كلّها عن الفرنسية، فيما أن "أكاذيب الليل" مترجمة، كما يبدو، عن الإيطالية التي يترجم منها أمارجي. مع ذلك، الترجمة متينة، كما سبق أن ذكرت، وكما ينتظر القارئ من مترجم كبسّام حجار، لولا الالتباسات التي ساورتنا.

عنوان الرواية لا ينكشف إلّا في نهايتها، ففي تعليق ختامي على السيَر التي رواها الأبطال الأربعة في ليلتهم الأخيرة، داخل سجنهم، قُبيل إعدامهم، نفهم أن السيَر النهائية هذه بحتُ أكاذيب، والأب السرمدي الذي ترجع إليه هذه السيَر هو، بحدّ ذاته، أكذوبة. يمكننا أن نفهم أن هذه السيَر أكاذيب، لكونها في الأساس قصصاً وروايات، أي أنها على هذا النحو أدبٌ بحت، شأنها في ذلك شأن حكايا "ألف ليلة وليلة" التي تخطر لنا غير مرّة ونحن نقرأ الرواية التي تحكي اجتماع أربعة من المتآمرين في سجن، وسرعان ما نفهم أنهم، جميعاً، يعودون الى قائد أساسيّ خفيّ، هو الأب السرمدي.

الانتصار بالسرد على الإعدام يُحيلنا إلى ألف ليلة وليلة

اقتربت ساعة الإعدام، لكنّ الحاكم يُتيح لهم أن يلتقوا ليلة التنفيذ، ويخيّرهم بين أن يقطع رؤوسهم، وبين أن يشي أحدهم باسم المتآمر الأوّل، الذي يخطر أنه الأب السرمدي. ليلةَ الإعدام هذه يلتقون، وليس في نيّة أيّهم أن يشي بالاسم، لكنّهم، في لقائهم هذه الليلة، يُحاكون، ولو من بعيد، "ألف ليلة وليلة". إنها ليلتهم ليحكوا قصصهم، ورغم ما ينتظرهم من قَصاص دائم، فإنهم، مثلهم في ذلك مثل شهرزاد، يُمضون السهرة في رواية الأقاصيص، والاستماع إليها، رغم ما ينتظرهم. هم، في هذه اللحظة الداهمة، رواةُ قصص وحكّاؤون ومتلقّون للحكايا، يسهرون لاستماعها والتمتع بها.

ليس مشهد الأربعة ليلة هذا اللقاء، وقصصهم المتواترة، سوى ما يعيد إلى البال مشهد شهرزاد وهي تمضي ليلتها في الحكاية. الأربعة يروون قصّة التوأم الذي يلحق توأمه في التمرّد والتآمر، بعد أن يموت ضحيّتَهما أمام عينيه؛ قصّة ذلك الذي يُفتَتَن بامرأة يُعينها على تحرير زوجها السجين، قبل أن تقع في غرامه؛ قصّة الابن الذي لا يعرف أباه وأمه التي تركته للدير، لكنّه، في النهاية، يتعرّف على أبيه الذي كان أغوى أمه وتركها تموت، فيقتله. هناك أيضاً ذلك المتآمر الذي ذهب بأمر من الأب السرمدي للقاء البارون، فيجده مات وترك أرملته وابنه.

لكن هؤلاء ليسوا أربعة فحسب، إذ يلتقيهم الأب الذي يتدخّل في رواياتهم، ليُعلن في النهاية أنه الحاكم نفسه، وقد تنكّر في ثياب راهب. الحاكم الذي سيعلّق في النهاية على روايات الأربعة، مصرّحاً أنها تآليف واختراعات، وأن الأب السرمدي نفسه ليس سوى أكذوبة. هنا ما في "ألف ليلة وليلة"، في هذه المقابلة بين ليلة الإعدام والانتصار بالفنّ والحكاية عليها.

أكاذيب الليل - القسم الثقافي

لا يبدو أن الأربعة انتصروا بالفنّ على الإعدام، لكنّ الحكاية نفسها، واعتبارها مجرّد سرد وتأليف، وبالتالي فنّاً، يجعل من كل شيء، بما في ذلك الإعدام نفسه، أقصوصة فحسب. الأب السرمدي أكذوبة، أي اختراع وتخييل، ولن تكون الرواية كّلها بعد ذلك سوى تخييل.

نحن هكذا قبالة "ألف ليلة وليلة"، إلى حدٍّ يمكن معه أن تكون "أكاذيب الليل" بناءً عليها ونسجاً على غرارها. لذلك لن يكون التآمر، بما يعنيه من تدبير وإعداد وابتكار، سوى كناية عن الفن، عن التأليف والتخييل والابتكار. الفنّ هكذا هو نوع آخر من التآمر، أمّا العنوان نفسه، "أكاذيب الليل"، فقد لا يعني أيضاً سوى ذلك. ألا يذكّرنا هذا بالقول العربي "أعذبُ الشعر أكذبُه"؟ مع ذلك فإن الكذب هكذا قد يكون أساس الكون. الأب السرمدي، كما يبدو في القصّة، ليس سوى أكذوبة. ذلك يعني أن الوجود نفسه، في أصله، قد لا يكون سوى هذه الأكذوبة، سوى الباطل نفسه واللاوجود، وبالتالي، ليس ولسنا معه سوى أيتام هذه الأكذوبة، سوى أولاد اللامعنى.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون