"أصابع" لـ عبد الله حبيب: سينما التحليق على ارتفاع منخفض

03 اغسطس 2022
مشهد حريق المنزل، من الفيلم
+ الخط -

تسأل المرأة رجلَها إن كان ما أدّياه طَوال 15 دقيقة فيلماً فيردّ قائلاً: لا. ويبدو هنا الشاعر والسينمائي العُماني عبد الله حبيب في فيلمه القصير "أصابع" (2019) مختبِراً صدقَه الإبداعي، كما يرى ألكسندر في فيلم "القربان" لتاركوفسكي (1986) إلى صدق الممثّل على المسرح ويتساءل كم عليه أن يكون صادقاً، فيفقد روحه لتتحلّل في شخصية أُخرى ليست شخصيّته.

في الفيلم شخصيّتان لا نراهما، ذكرٌ وأُنثى، تكتفي الكاميرا بتصوير أصابعهما تدورُ حول بعضها وتتشابك، بينما ينوبُ الصوت عن رؤيتهما كلّياً معاً، وفي الأثناء تحضر كلُّ لقطات الفيديو والصور والنصوص المكتوبة على الشاشة لتكون المعادل البصري.

هذه الفسحة المكثّفة سينما رغم أنف ما قاله الرجل في الخاتمة نافياً أن يكون كذلك. والصوت هو صوت عبد الله حبيب الذي يؤدّي، ويحلم طَوال الفيلم بأن يُنجِز فيلماً. هذه الخدعة تجعلُ حبيب مؤلّفَ الفيلم ومخرجه حرّاً، يقول ما يريد ولكن دائماً على عُهدة الممثّل، ولا تكتمل الخدعة إلّا حين يصفها بأنها "فيلم شخصي".

كان بإمكانه القولُ إنّه فيلم غير شخصي ليفتَحه على المُمكنات. بيد أنّ الأفضل أن يكون شخصياً جدّاً إلى الدرجة التي تنعدم فيها الخصوصية، كما الحال في سينما راينر فاسبيندر حين تنعدم فيها تفاصيل اللقطة لتصبحَ بيضاءَ تماماً، وصالحة لأن تكون هوية أيّ واحد منا، في تيهه الأبدي.

تشكّل لقطات الفيلم تلخيصاً لموقف حبيب المثقّف النقدي واسع الاطلاع. لربّما نغامر في استحضار مقولة ألبرتو مورافيا "أقف يساراً وأنظر إلى العالم" لنطبّقها على موقف المخرج والممثّل في الفيلم أيضاً، إلّا أنه يتفلّت منّا ولا يقفُ يميناً ولا يساراً، بل طائراً يرى من الأعلى. إنّ الطائر يحلّق على ارتفاعٍ مُنخفضٍ مثل سيرغي باراجانوف الذي يكتب الشعر بالسينما. فالتحليق على هذا الارتفاع هو الأصعب دائماً، إذ عليك أن تتولّى حراثة الأرض والغيم.

أو مثل تاركوفسكي الذي شاركه في لقطة بديعة، كان حبيب يظهر فيها نصف عارٍ وأمامه المشهد القيامي، حين أحرق ألكسندر بيته في نهاية فيلم "القربان"، ردّاً على مقولة محمود درويش حول البيت الشعري، إذ إن الشاعر سمّاه "البيت" لأنه مسكنه الذي يبيت فيه.

تلخّص لقطات الفيلم موقف المُخرِج النقدي وواسع الاطلاع

أما لماذا أحرق ألكسندر البيت، فيجيب حبيب بأنّه لا يعرف، وهذا غير صحيح. كلّ ما في الأمر أنّه امتنع عن الإجابة، وترك لنا مثلما ترك تاركوفسكي، الذي يعتبر نفسه شاعراً قبل أن يكون سينمائياً، حرّية التحديق في الكابوس.

ومثلما أهدى عمله كلّه إلى روح كمال بُلّاطه (1942 - 2019)، الفنان التشكيلي والمؤرّخ الفني الفلسطيني البارز، فلنا أن نُشركه في فكرة البيت، الذي سكنه الشاعر العربي، وأحرقه ألكسندر قرباناً لربِّ المؤمنين وغير المؤمنين، وعاد إليه بُلّاطه في تابوت ليدفن في مدينته القدس، بعد منفى لو سُردِت حكايته خارج سياق ما حدث عام 1967، لكانت طرفة. فهو في بيروت يزورها بمعرضه التشكيلي، ولم يخبره أحد بأن البرابرة قادمون ليحتلّوا بيته. وأيّ احتلال في التاريخ ينبغي أن يمرّ أولاً بمرحلة الغطرسة تليها السماجة. والسماجة أسوأ من السرطان الذي يمكن العثور على علاج له.

أليس هذا ما فكّر فيه الممثّل، وهو يسرد لشريكتِه نكتة من اشترى علبة سجائر كُتب عليها "التدخين يسبب العجز الجنسي" فرجع للبقال قائلاً "لا أريد هذا النوع. أعطني من الذي يسبّب السرطان".

تفاصيل اللقطة البيضاء تصلح لتكون هوية أيّ واحد منا

جاب بنا الفيلم مصحوباً بموسيقى "سوناتا القمر" لبيتهوفن ديار قيس بن الملوّح وبازوليني الذي شُوِّهت جثتّه في إيطاليا، وبدر شاكر السياب مع "شرفتين راح ينأى عنهما القمر"، وصوت فيروز "شايف البحر شو بعيد" في أجواء شعرية لعبد الله حبيب "تقول لي: هذا الصباح يشبه أغاني فيروز، ثم تنساني في القهوة"، وروبير بريسون مع كتابه "ملاحظات في السينماتوغرافيا" مستلاًّ منه عبارة "معضلة أن تجعل ما ترى يُرى بواسطة ماكينة لا تراه كما تراه أنت"، وطلال مداح وهو يموت مغنّياً "الله يردّ خطاك لدروب خلّانك".

بقي القول إنّ حبيب لديه طاقةٌ تمثيلية لسينما مؤلّف شاعرية، وهو قادر على تقديم المزيد ممّا عرفناه في أفلام عظيمة ظهر فيها الشغوفون غير المحترفين أبطالاً، رغم توقّع تحفّظه على البطولة والأبطال.

والتحفّظ بالتحفّظ يُذكر، فقد كانت الأصوات صاحبة الحظوة الكبرى في الفيلم، والمأخذ الذي يساق هنا في طريقة إلقاء الأشعار والعبارات المُقتبَسة بصوت نسائي، بدا - أي الصوت - أقل عُمقاً وكأنه في أحيان إلقاء طالبة مدرسة. كما أنّ اللازمة اللطيفة باستخدام "ممم" التي يُقفل الرجل والمرأة دردشاتهما على السرير، كان يمكن الاستغناء عنها حين يخبر الرجل شريكته أن صديقه أُعدم بثلاث رصاصات. وهذه تفاصيل، لا تخدش تقديرنا للفيلم ولا انتظاراتنا من سينما عبد الله حبيب.

المساهمون