رسمت جملة من الأحداث التي عاشتها الدولة العثمانية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وبدايات القرن الماضي، مستقبل تركيا الحديثة سواء في صعود نزعة قومية علمانية في أوساط الجيش وتأثيره الكبير على طبيعة الحكم لاحقاً، والعلاقة مع البلدان العربية الخاضعة حينها للأستانة.
صدر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" كتاب "أسباب الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة" للكاتب والدبلوماسي الفلسطيني محمد روحي الخالدي (1864 – 1913)، الذي حققه وقدّم الباحث والأكاديمي اللبناني له خالد زيادة.
يستعرض الكتاب التاريخ السياسي للدولة العثمانية، خصوصاً في فترة التنظيمات وعهد السلطان عبد الحميد الثاني، كما يستعرض بالتفصيل ظهور الحركات المعارضة، ولا سيما "جمعية تركيا الفتاة" و"حزب الاتحاد والترقي"؛ وبذلك يشكّل وثيقةً فريدة صدرت بعد أسابيع قليلة من الانقلاب الدستوري في عام 1908.
يقول زيادة في تقديمه إن "أهمية كتاب الخالدي تكمن في استعادة الأجواء الفكرية والسياسية التي حضّرت للانقلاب والتي صنعته، الأمر الذي يسهم في فهم التطورات اللاحقة التي شهدها القرن العشرون وحتى يومنا هذا في تركيا والمشرق العربي ومصر".
قسّم زيادة الكتاب من حيث بنيته إلى أربعة مستويات: الأول، المستوى الفكري؛ بتبنيه مفهوم الانقلاب بدلاً من الثورة، ومفهوم الاستبداد الذي شاع آنذاك. يقول زيادة: "في هذا الجزء من الكتاب، يبدو لنا الخالدي مفكرًا إسلاميًا إصلاحيًا يزاوج ما بين أسس العدالة في الإسلام وأسس الحرية في المذاهب الغربية. وهو بذلك يُعد تلميذًا لأفكار الشيخ محمد عبده وأفكار مجلة ’المنار‘".
والثاني، المستوى التاريخي؛ فالمؤلف يرجع إلى بدايات الإسلام وما عرفته من عدل أيام الخلفاء الراشدين، ثم انتقال الخلافة الإسلامية من العدل إلى الاستبداد، كما يرجع إلى أصول الدولة العثمانية التركية منتقدًا، ضمنيًّا، جذورها العسكرية وبدائية تقاليدها السياسية والعسكرية.
أمّا المستوى الثالث فهو المستوى التوثيقي الذي يهتم بفترة السلطان عبد الحميد. ويلاحظ زيادة أن الخالدي الذي يركز انتقاداته على رجال السلطة والمابين يحيّد السلطان عبد الحميد، بينما المستوى الرابع فهو المستوى الصحافي؛ إذ كتب الخالدي مقالاته على عجلٍ بدافع تأييد الانقلاب أو تبيان مبرراته: "وتبرز أهمية هذا الجانب الذي يشبه تقارير الصحافيين وتحقيقاتهم من خلال ما يسرده من وقائع جرت في مدينة سالونيك عند إعلان الانقلاب، وإيراده تفاصيل وأسماء من قاموا بالحركة العسكرية ومن قادها، وهي أسماء لضباط ومسؤولين محليين كانوا مسؤولين في الأمن في تلك المدينة عند اندلاع الحوادث".
بحسب زيادة، يمثل الخالدي "أنموذجًا لمثقفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فهو ابن عائلة عريقة من القدس، والده ياسين الخالدي عضو المجلس العمومي في بيروت، والقاضي الذي تنقل بين مدن عديدة تبعًا لمتطلبات وظيفته؛ فكان على الفتى أن يتنقل مع والده بين القدس ونابلس وبيروت وطرابلس". ويضيف زيادة قائلًا إن الانقلاب الدستوري شكّل لحظة حاسمة في تاريخ الدولة العثمانية والشعوب التي كانت لا تزال تتبعها: "وقد أدرك روحي الخالدي ذلك، فجاء كتابه بمنزلة إعادة تقييم لتاريخ الدولة العثمانية، مع تركيزه على دور الإصلاحيين من السلطان سليم الثالث الذي كان صاحب أول مشروع إصلاحي متكامل، إلى السلطان محمود الثاني الذي قضى على الإنكشارية فوضع بذلك الدولة على طريق التحديث، إلى السلطان عبد المجيد الذي أعلن خط كلخانة الذي مثّل بداية عصر جديد من الإصلاحات، عُرف باسم عصر التنظيمات".