"الشعبوية.. الاستياء الكبير": هذا كلّه لم يحدث

03 اغسطس 2017
من حملة ترامب (ديمون وينتر)
+ الخط -
حينما نشر جان بودريار (1929-2007) مقالاته الثلاث مطلع تسعينيات القرن الماضي، والتي تحولت في ما بعد إلى كتاب: "حرب الخليج لم تحدث" (1991)، لم يكن ليخطر على باله ما ستؤول إليه الأوضاع بعد وفاته بعشر سنوات.

كان بودريار ساعتها مشغولاً بسؤال حقيقة العدوان على العراق، أو حرب الخليج الثانية، محاججاً، أنها لم تقع، ولم نشاهد منها سوى نسخة تلفزيونية مشوّهة منقولة عبر الـ"سي إن إن"، التي ستبني مجدها الإعلامي بعد تغطيتها المباشرة لهذا العدوان.

صاحب "المصطنع والاصطناع" (1981) انشغل بمفهوم "الواقع الفائق" الذي ابتدعه ليبرّر نفي وجود صورة واحدة للواقع قابلة للقبض، وهو لو عاش اليوم كان سيرى اختفاء الواقع بكل تفاصيله، ليحل محله عالم ما بعد واقعي، تضيع فيه الحقيقة ليس بين نسخها المتعددة كما كان يحاجج، بل بين نقائضها، مشكّلة مرحلة جديدة (ليس تماماً) في التاريخ البشري.

بعد الثورات المضادة في الوطن العربي، أصبح هذا "الواقع" حاضراً وبقوة، فبدل نقاش الأحداث في حدّ ذاتها وأسبابها ونتائجها، انقلب الحديث في كثير من الأحايين حول وقوع الحدث نفسه. سؤال عاميّ كـ"ثورة دي ولا انقلاب؟"، انقلب سؤالاً حقيقياً يُتناقش حوله وينظّر لإجاباته، لا سؤالاً هزلياً يسخر من حدث حاصل بالفعل، وهو ما يمكن أن يذهب بنا إلى استعارة هيّنة بالقول: "الثورة المضادة لم تحدث".

يجمع عدد من باحثي العلوم الاجتماعية، على أن هذه الظاهرة التي نعيشها اليوم، لا تبعد عن/ وترتبط ارتباطاً شديداً بظواهر كالشعبوية السياسية، إذ تجد الأخيرة نفسها تستفيد من (أو تحرّض على) تعويم الأحداث والحقائق في نسخ ونقائض منافسة، وتلعب على ما استفاد منه عبد الفتاح السيسي في انقلابه، ودونالد ترامب في حملته مثلاً: الحقائق البديلة. هذا ما يتصدّى له، بحثاً، الأكاديمي الفرنسي، إريك فاسان، في كتابه الصادر حديثاً بالفرنسية "الشعبوية: الاستياء الكبير" عن منشورات "تيكستيال".

قسّم فاسان كتابه صغير الحجم الصادر ضمن سلسلة "الموسوعة النقدية الصغيرة"، إلى ثمانية مداخل من بينها: "الشعبوية غير المعرّفة"، و"اللحظة الشعبوية"، و"الانقلاب الديمقراطي"، و"من الشعب إلى الطبقات الشعبية". وركّز جل اهتمامه على محاولة وضع تعريف للشعبويّة السياسية، خصوصاً في الولايات المتحدة وأوروبا.

ويمكن المجازفة بالقول، إن الحجة الرئيسية للكتاب تتلخّص في قول فاسان، إن الشعبوية لم تعد أمراً مقتصراً على قوى اليمين (القوميون، والمحافظون بالأساس)، بل أصبحت هدفاً لليسار؛ الذي في محاربته لحالة الصعود القوي لقوى اليمين، وجناحه المتطرف خصوصاً، عاد إلى أساليبه الشعبوية لتعبئة وتقريب الجماهير منه في استعادة لحالة الستينيات. "إنها حالة معبّرة عن واقع ما بعد نيولبرالي عنوانه الأساس: الاستياء الكبير".

إن الشعبوية حسب فاسان، هي حالة خطابية بالأساس، أكثر منها أفعالاً. فإذا كان شعبويو القرن الماضي اليساريون - في حالة مناهضة للرأسمالية - يصطفّون إلى جانب الشعب وينزلون إليه "فعليّاً"، كما يظهر ذلك في قراراتهم، فإن شعبويي اليوم، يكتفون بالخطاب، خطاب يضعهم في دور الوساطة بين التحت والفوق، أي أنهم الآتون من الطبقات الحاكمة الرأسمالية/ النيولبرالية، الذين يحسّون بمعاناة الشعب، ويفهمون احتياجاته، ويقررون الدفاع عنه، وهذا ينطبق حرفياً على حالة السيسي مثلاً القادم من أعلى سلطة في الجيش، كما ينطبق على ترامب القادم من نجاحات عالم المال والأعمال، أو حالة أكادميّي حزب سيريزا اليساري اليوناني.

هذه الحالة، تجعل من الديمقراطية أداة يمكن توظيفها لأغراض مضادة لطبيعتها. وهو ما تناوله بتركيز فاسان في الجزء الرابع من كتابه. لقد أمثل الأكاديمي الفرنسي لهذه الحالة بنموذج استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "البريكست"، وكيف وُظّفت آلات الشعبوية، لإقناع المصوتين بالتصويت لصالح الخروج بدوافع اقتصادية وقومية بالأساس. كما أنها في حالة فنزويلا (وهنا المقابل اليساري)، دفعت أيضاً لتقوية جناح الرئيس، مادورو، الوارث لرفيقه، بطرق تبدو ديمقراطية في ظاهرها، لكنها لا تبعد عن شبهة الانقلاب الناعم (الحالة التركية ليست بعيدة عن النموذج هذا).

تقوم عملية إرساء قواعد الشعبوية دائماً، وفي جميع الحالات التي يعرضها فاسان، على توظيف

الإعلام، خصوصاً في شقه الجديد (الإنترنت وما يلد)، لتعويم الحقائق وللتزييف. هنا لا تصبح الحقيقة/ الخبر واضحاً، فينقلب النقاش من الحدث/ الواقعة، إلى الجدال حول وقوع الحدث من أصله، ليظهر تيّار ثالث يهرب من كل هذا الضجيج مستنكراً ومنكراً: هذا كله لم يحدث!

هذا التيار يمكن سحبه بيسر نحو الحالة العربية بعد موجات الثورات المضادة، وصراع الديكة بين معسكرين (بغض النظر عن وقوف طرف منهما في صف "الواقع" أو "الحقيقة")، فنجد كثيرين أصبحوا يتبنون مقولة عدم حدوث الثورات، أو أن ما يحدث ليس ثورة ولا ثورة مضادة.

عنون فاسان الجزء الخامس بـ "من الشعب إلى الطبقات الشعبية" - وهو هنا لا يقصد بالطبقة معناها الماركسي/الاقتصادي الشائع، بل انقسام الشعب إلى كتل متقاطبة عابرة للمستويات الاقتصادية. فإذا كان المشهد الأميركي قبل الانتخابات ينقسم فيه اليمين إلى يمينينِ على الأقل بين ترامب ومنافسيه، كان الديمقراطيون منقسمين بين كلينتون وساندرز، وكان الجميع ضد ترامب، هنا تتداخل الأوراق بشكل محيّر للمواطن العادي/ غير المؤدلج، ولا يجد لنفسه موطئ قدم في هذا التناحر.

عربياً كانت مقولات "احنا شعب وانتو شعب" رائجة طيلة سنوات ما بعد اللحظة الثورية، لتتحول تدريجياً إلى حالة من الاحتكار التمثيلي بالوقوف عند قول "احنا الشعب".

إن كتاب فاسان الذي عرضنا بعض محتوياته باقتضاب هنا، يعتبر جهداً مهمّاً، يمكن التركيز على مثيله عربياً. فإذا كنا لا نتشارك مع الحالة الغربية في كثير من صراعاتها، وواقعها، فإننا نشاركها ونشارك العالم كله، في عالم "ما بعد الوقائع".

مستقبل خيبة أمل
إريك فاسان (1959)، أستاذ العلوم السياسية في جامعة باريس 8، وأكاديمي مهتّم بقضايا الجنسانية وتحوّلات الدولة-الديمقراطية في القرن الجديد. يعتبر واحداً من مقدمّي فكر جوديث باتلر للقارئ الفرنسي، واشتهر بتقديمه لترجمة كتابها "الاضطراب الجندري".
صدر له في السنوات الأخيرة: "ديمقراطية هشّة: قصة انحراف الدولة" (2012)، "اليسار: مستقبل خيبة أمل" (2014)، "الشعبوية: الاستياء الكبير" (2017).

دلالات
المساهمون