حين وضع الكاتب والصحافي والسياسي الفلسطيني، محمد علي الطاهر (1892-1972)، عبارة "ظلام السجن" عنواناً لكتابه، وألحقها بالعنوان الفرعي "مذكرات ومفكرات سجين هارب، تنكّر واختفى"، لم يكن يؤلف رواية خيالية، بل كان ينشر ما يمكن أن نطلق عليه بتعبير الأميركي، ترومان كابوتي، رواية غير متخيّلة.
لم يكن ظلام السجن الذي ذاق مرارته في "سجن الأجانب" في مصر، مجرد تعبير شعري، بل كان سجناً مظلماً بالفعل في حجرة ضيقة مظلمة ليلاً ونهاراً، حسب ما يروي في كتابه هذا. وكان هو كما قال أول سجين سياسي في "الحرب العظمى".
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتعرّف فيها إلى ظلام السجن، إذ سبق أن كانت له حكاية سجن، قبل ربع قرن من هذا التاريخ، على يد سلطات الاحتلال البريطاني في سجن الجيزة في مصر، مطلعَ الحرب العالمية الأولى سنة 1915.
لم يطلق سراحه إلا بعد انتهاء الحرب، وتكرر الأمر في العام 1940 حين أوعزت سلطات الاحتلال البريطاني في مصر بالقبض عليه وحبسه، وظل سجيناً حتى العام 1941، أي إلى حين غافلَ الحرس وهرب من مستشفى السجن بعد مرض، فتنكر واختفى لمدة أحد عشر شهراً تقريباً، ليكرّر؛ من دون أن يدري ربما، حكاية اختفاء وتنكر خطيب الثورة العرابية عبد الله النديم (1842-1896)، وتشرده بين القرى المصرية هارباً من المحتلّين البريطانيين أيضاً.
لكن الزمن الذي قضاه الطاهر متنقلا بين المنصورة وطنطا ودمنهور والإسكندرية ودمياط والسويس، بأزياء وأسماء مختلفة، لم يمتد إلى عشر سنوات كما كان الحال مع النديم، بل لم يتعدَّ السنة تقريباً بفضل التغيير الوزاري الذي جاء بمصطفى النحّاس باشا رئيساً للوزراء عام 1942، مما دفع الطاهر إلى تسليم نفسه شخصياً للنحّاس الذي كان على معرفة وثيقة به، فأطلق سراحه.
لم يطل المقام به خارج ظلمات السجن، ففي عهد وزارة إبراهيم باشا عبد الهادي، التي يطلق عليها لقب الوزارة "الخارجة على الأمة المصرية" في عام 1949، قبض عليه مع عشرات الآلاف من الأبرياء بلا سبب ولا موجِب، وحبس في صحراء السويس في معسكر "هاكتسب". يقول الطاهر: "لو طال عهد هذه الوزارة للَبِثت سجيناً بضع سنين"، ويضيف: "تألمتُ من عمل تلك الوزارة أكثر من ألمي من الإنكليز الذين عذبوني وحبسوني مراراً وتكراراً، وحاربوني أكثر من ثلاثين عاماً".
سيرة هذا الكاتب والصحافي الفلسطيني غير المتخيّلة، بلقب "العربي التائه" الذي حمله واتخذه توقيعاً له، ستظل سلسلةً من الرموز والألغاز، إن لم يعرف القارئ أنه كان صاحب جريدة "الشورى"، التي قارعت المستعمرين البريطانيين وأتباعهم طويلاً منذ صدور عددها الأول في مصر في 22 تشرين الأول/أكتوبر 1924، وانتصرت للثورات العربية في فلسطين وسورية وليبيا على السطوة البريطانية والفرنسية والإيطالية، وساندت حركات المقاومة في تونس والجزائر والمغرب.
لفتت خطورة هذه الجريدة انتباه المستعمرين وصنائعهم من العرب، فحاربوها في السرّ والعلن، ومنعوا دخولها إلى البلدان العربية الواقعة تحت نفوذهم. وتغلباً على المنع والمصادرة، عمد إلى إصدار "الشورى" تحت أسماء مختلفة، مثل "الرقيب" و"المنهاج" و"الناس" و"الجديد" وغيرها. وتميزّ هذا الجهد الفكري والسياسي بما كانت تفتقر إليه صحافة تلك الأيام. فبالإضافة إلى دفاعه عن قضية فلسطين وقضايا العالمين العربي والإسلامي دون تمييز، وعلاقاته مع الوطنيين الأحرار في هذين العالمين، امتاز بموقف نقدي حاد، أسقط الأقنعة عن وجوه الكثير من الشخصيات السياسية والفكرية والدينية في زمنه.
يضمّ كتاب "ظلام السجن"، كما أورد صاحبه، جذاذاتٍ وقصاصات من الورق سطّر عليها؛ خلال حياة الهرب، مذكرات وملحوظات بعبارات ورموز وإشارات، لا يفهمها غيره إن هي وقعت في يد أحد. وشرع بعد خروجه من سجن "الأجانب" سنة 1941 في حل مَعميّاتها واستخراج ما فيها، وتدوين حوادثها وصياغتها بشكل متسلسلِ المشاهد، يصف حياة السجن والهرب والتنكر والاختفاء. فسجّل ما كان يتخلل كل هذا من أحداث مرت به، ووقائع ومباغتات صادفته، ومشاهدات وقع عليها نظره.
ويفصّل حرفياً: "سجلتُ ملاحظات متناثرة، وبعض الشجون والشؤون والتجاريب والمطالعات والتعليقات، من سياسية وتاريخية وأدبية وبوليسية، ونظرات في الاستعمار وأحوال الأمم المظلومة، وقيام الجامعة العربية وحالتها اليوم، ومصرع فلسطين... وجعلتُ ذلك كله في صورة تجعل القارئ يشهد معي بعضَ ما شهدتُ، ويرى بعضَ ما رأيت، ويرافقني في تلك الفترة من الحياة كأنه يعيش معي، أو كأنه يستعرض فصلاً سينمائياً متعاقبَ الحوادث، متلاحقَ الصور والمناظر".
أما لماذا تأخر نشر هذا الكتاب ولم يظهر إلا في عام 1951، فلأن ما يسميه "كابوس الرقابة" على المطبوعات ظل جاثماً على الصدور حسب تعبيره، حتى أوائل الخمسينيات، أضف إلى ذلك اعتقاله للمرة الثالثة.
ولم تسنح فرصة النشر إلا بعودة النحاس باشا إلى الوزارة، وإلغاء الأحكام العرفية والرقابة على المطبوعات، فبادر إلى وضع كتاب باسم "معتقل هاكتسب" عن فترة حكم حزبي السعديين والدستوريين، وقصده من التعجيل بوضع هذا الكتاب الأخير، كما يصرح "أن يضرب الظالمين قبل أن يبرد الحديد، وقبل أن تنسى الأمة تلك الفظائع الرهيبة التي لم يقع مثلها من عدو مع عدوه، لا في العصور الوسطى ولا في القرون المظلمة".