عبد الرزاق السنهوري.. أماني رجل القانون المصري

18 نوفمبر 2017
(عبد الرزاق السنهوري)
+ الخط -

قلّما اجتمعت الكفاءتان، القانونية واللغوية، مثلما اجتمعتا لدى رجل القانون المصري، عبد الرزّاق السَّنهوري (1895-1971)، الذي أنجز أدق عملية صياغة للدساتير والقوانين العربية، دون القطع مع التّراث الفقهي للأمة الإسلامية، ناقلاً هذه القيم من المجال الديني إلى مجال الحق الوضعي.

ولندرك أهمية هذه الخطوة، يحسن التّذكير أن كتب الفقه التّقليدية ظلّت، منذ نشأتها، في القرن الثامن حتى نهاية القرن التّاسع عشر، خاضعة لبنية ثلاثية: العبادات، والمعاملات، والعقوبات.

كسر السّنهوري هذه البنية مستلهماً تنظيمات السلطنة العثمانية، وما تلاها من إصدار "المجلة"، أول نصٍّ قانوني تركي-عربي، إلى جانب مدوّنات القانون الفرنسية والإنكليزية، من أجل صياغة قواعد وضعيّة حديثة، لا تعارض كليات الشريعة ومقاصدها، وتساعد في إرساء حُكمٍ جمهوري. وهو بذلك، يعدُّ محرّر أول قانونٍ مدني لمعظم الدول العربية التي تتخذ من "مجلة الأحكام العدلية"، ذات المرجعية الحنفية، أساسًا لها.

وقد طوَّع السنهوري، لإنجاز مشروعه هذا، لغة الضاد فعبَّر من خلالها عن البعد الوضعي للقواعد، بإدماج مفردات جديدة، وإفراغ المصطلحات الفقهية التقليدية من الشحن الثيولوجية والقَبَلية، ثم بإضافة فروعٍ مستحدثة، تشمل أنظمة السياسة المدنية، وقواعد الحَوْكمة، في بلدانٍ خرجت للتو من نِير الاستعمار، مع مراعاة خصائص تلك اللحظات التاريخية الحرجة، التي كانت الأمة العربية فيها تبحث عن ذاتيتها: بين حُلم القومية العربية والجامعة الإسلامية، في ظل رغبة الجيش في تعطيل القواعد المدنية، وفرض نظام عسكري.

نجد عرضاً شيِّقاً لتفاصيل هذا المنجز الفكري وللظروف التاريخية التي حفت به ضمن 455 فقرة وقصاصة، كتبها رجل القانون المصري بنفسه في "أوراقٍ شخصيةٍ"، كان ينوي طبعها في كتابٍ، ولكنَّ المنيّة عاجلته، فاضطلعت بإتمامه ابنتُه نادية وزوجها توفيق الشناوي، ولم يصدر الكتاب إلا بعد سنوات من رحيل مؤلفه تحت عنوان "عبد الرزاق السّنهوري.. من خلال أوراقه الشخصية"، مع أنَّ بداية كتابته تعود إلى سنة 1916، حيث تحدَّث، في أولى الأوراق، عن أبويْه وعن طفولته. ثم استمر في كتابتها، بانتظامٍ نسبي، حتى يوم 11 أغسطس/ آب 1969.

ولذلك، كانت أماكن تحريرها متعددة، متنقلة: شملت القاهرة، باريس، ليون، دمشق، بغداد، وبيروت. فحيثما حلَّ، وتفجرت القريحة، من وحي لحظة، سارع إلى أوراقه يودع فيها أحاسيس ضعفه، وخلجات فكره، أحلامَه وآمالَه. فهذه سيرة أحلام رجلٍ، وطموحاته، في السياسة والقانون، رسمها بريشته، وسعى إلى تحقيقها بعمله.

ولذلك شملت هذه الأوراق أجناساً من القول مترامية: فيها من شِعر الشباب الذي اختطه في أغراض الوجدان والوطنية، وفيها من ملاحظات الإصلاح الدقيقة، إلى جانب كثير من الشهادات على العصر، ومن أنْفَسها صفحات خلَّد فيها الدقائق الحاسمة التي تم فيها توقيع الملك فاروق على خطاب التنازل عن العرش لصالح ابنه أحمد فؤاد، بضغطٍ من "الضباط الأحرار"، وهو الخطاب الذي حَرَّره السنهوري كاملاً في صيغة "أمرٍ ملكي".

وفيها أخيراً من الأدعية الصادقة والتأملات الغيبية، وحتى الصوفية، إشاراتٍ ولمعًا تنبئ عن إيمانٍ قوي وعاطفةٍ مشبوبة. ورغم تنوّع الأغراض واتساع دائرتها، يمكن تلخيصها في ثلاثة محاور كبرى: الفكر الإسلامي، العمل الوطني، والتأملات الفلسفية والأدبية في اللغة والمجتمع والقانون.

ولأخذ فكرة واضحة عن طبيعة التأمل السياسي الممزوج بالالتزام الديني، نورد رأيه الذي يؤكد فيه أنَّ "الديمقراطية الإسلامية تُلزم على أفرادها لا إطاعَةَ القانون فحسب، بل العملَ على حمل الغير على إطاعَته، أي أنَّ موقفَ الفرد موقفٌ إيجابي، لا سلبي، كما هي الحال في الديمقراطية الغربية. وتكون حقوق الفرد إذن في الديمقراطية الإسلامية، وقدر اشتراكه في إدارة الشؤون العامة، أوفر من القدر المُعطى للفرد في الديمقراطية الغربية".

ومن الآفاق الجديدة التي يفتحها هذا الكتاب، ولم يعتن بها اللسانيون العرب بعد، آراء لغوية طريفة، ليس فقط حول الأدب (فقد صاغ بضعة أبياتٍ واستشهد ببعضها الآخر) ولكن حول تطوّر العربية الفصحى، وعلاقتها بالدارجة، وخصائص لغة القانون، وجهوده في الترجمة، ونقل المصطلح السياسي، ومسائل التوليد الاصطلاحي، وغيرها، لا سيما وأن الرجل عُيّن عضواً في "مجمع اللغة العربية"، تقديراً لجهوده في خدمة الضاد والحفاظ عليها.

هذه "الأوراق" هي نمطٌ جديدٌ من كتابة السيرة الذاتية التي لا تتناول الأحداث والأفكار، إلا لماماً، وإنما تركز على الخاطرات والأماني، في مجال العمل القانوني، فالكتاب أشبه بمسيرة لأحلام وطموحاتٍ، يختطها الإنسان ويسعى إلى تحقيقها، ذكر فيه ما اعتراه من لحظات ضعفٍ وانكسار، ولعلّ "فقيهَ مصر" كتبها لنفسه فقط، مسجلاً ما نبض به قلبه وما جال في خَلده من خواطر وآراء. على أنها أضاءت من التاريخ المصري الحديث لحظات حرجة فيه.

_____________________________________________
زمن القوانين المدنية والدساتير

مزج عبد الرزاق السنهوري (1895-1971) في حياته بين الشأن العام والإنتاج في مجال القانون، إذ يعتبر أب القانون المدني في العالم العربي؛ حيث ساهم في وضع القوانين المدنية والدساتير لعدة بلدان عربية حديثة الاستقلال. وله مؤلفات مرجعية في القانون المدني، ما زالت تدرّس في الجامعات حتى اليوم، من بينها كتابه متعدد الأجزاء"الوسيط في شرح القانون المدني".

تولى السنهوري مناصب مختلفة، قانونية وأكاديمية وسياسية، من بينها توليه وزارة المعارف أكثر من مرة في النصف الثاني من الأربعينيات. إثر خلافه مع عبد الناصر، اعتزل العمل العام حتى وفاته عام 1971.

المساهمون