"ذاكرة القهر" مواطنون منكّل بهم

19 يوليو 2015
نرمين همّام، طباعة ورسم على ورق أرشيفي
+ الخط -

تقدّم الباحثة المصرية بسمة عبد العزيز عملاً أكاديمياً بلغة يمكن للقارئ غير المتخصّص في علم النفس أن يفهمها دون حواجز. الكتاب هو "ذاكرة القهر" وقد صدر مؤخراً عن دار "التنوير" في القاهرة، وهو كما قال عنه الأكاديمي أحمد عكاشة في مقدّمته "يعتبر تطبيقاً علمياً لمعارف الصحة النفسية والطب النفسي خارج حدود العيادة الإكلينيكية".

تناقش المؤلّفة في ستة فصول تجربة التعذيب من الناحية العلمية والاجتماعية والنفسية لتقدّم بذلك نظرة شاملة حول هذا العنف الممارس من قبل أي سلطة كانت، وأسبابها وتأثيرها على الضحية والجلاد في الوقت نفسه.

وبما تضمّنه من وقائع موثقة، قد يشكل الكِتاب صدمة لقارئه، خصوصاً أن غالبية هذه الوقائع حصلت بعد أحداث ثورة 25 يناير، التي جاءت لتنادي بالحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.

في الفصل الأول الذي جاء بعنوان "التعذيب تاريخ وحاضر"، تناقش عبد العزيز الغرض من التعذيب؛ الفعل الذي يختص به البشر وحدهم. وتعود الكاتبة إلى تاريخ التعذيب الذي بدأ قديماً كنوع من أنواع العقوبة القانونية للمجرمين ولأصحاب المعرفة المحرّمة التي يصلون إليها بالعلم والبحث.

الوقائع التي يعيد البحث قراءتها تؤكد أن التعذيب لم يكن يطاول إلا أبناء الطبقة الفقيرة أو "العبيد"، ومن يمارسه عليهم هم أصحاب السلطة.

وفي "التعذيب تجربة صادمة وكربٌ لاحق"، تُفرد الباحثة هذا الفصل للتعريف بمعنى الكرب. وتوضّح التأثيرات النفسية والاجتماعية التي يُخلّفها التعذيب في الضحية وصعوبة تكيّفها من جديد مع المجتمع المحيط، لأنها مؤثرات وأحداث تسفر عن حالة كرب لا مفر منها بسبب تجاوزها للقدرات والآليات الخاصة بالتكيّف لدى الأشخاص، وبالتالي ينجم عنها اختلال نفسي ووظيفي.

يضاف إلى ذلك، التبعات النفسية للتعذيب، فهي ليست جروحاً يمكن تضميدها، ولا كدمات يمكن علاجها، ولا آثاراً يمكن تجميلها، بل إصابة نفسية عميقة من الصعب أن يجد أحد من المحيطين بالشخص الذي تعرّض للتعذيب مدخلاً إليها.

وفي الدراسات الميدانية التي قامت بها عبد العزيز عن ضحايا التعذيب، جمعت شهادات موثقة ومتوفرة في الكتاب، يمكن الاطلاع على معلومات جديدة ونادرة؛ ومردّ ندرتها خوف الضحية من الإدلاء بأي معلومات تحسّباً من إعادة اعتقالها وتعذيبها، وإخفاء أو تزييف الأنظمة نفسها لحقائق ما يحدث في معتقلاتها.

كما تتطرّق الباحثة إلى ردود أفعال الضحايا، فبعضهم ينسحب من المجتمع وينكفئ على نفسه مع شعور بالعار، والبعض الآخر يفكر في الانتقام كمحاولة لرد الاعتبار أمام الأهل والمجتمع.

لا تكتفي الكاتبة بتناول الضحية فقط، بل تبحث في سيكولوجيا "الجلاد والنظام" في فصل حمل هذا العنوان، إذ يربي الجلاد أساليب تبرر سلوكه أمام نفسه ومن حوله، وتقنعه بأن ما يفعله هو الصواب بعينه.

أمّا النظام فيجد فيها منهجاً ضرورياً لا غنى عنه للحفاظ على السلطة أياً كان شكلها أو شرعيتها، فالتعذيب ليس مقتصراً فقط على الأنظمة الشمولية المستبدة، إنما تمارسه أيضاً دول تتشدق بالديمقراطية وتمارس التعذيب خارج أراضيها، وتعطي الباحثة معتقل غوانتانامو كمثال على ذلك.

أحد الفصول الإشكالية ذلك الذي تفرده الكاتبة لتناقش "التعذيب والممارسة الطبية" ودور الطب والأطباء في التعذيب ومشاركتهم غير العشوائية بل المدروسة والمنظمة، والمهمة التي تقع على الطبيب من ابتكار أسلوب التعذيب والمزيد منها ومن الحيل الجديدة.

ليس هذا فقط، بل تتناول دور الطب النفسي بالتحديد في غسل الأدمغة ومحو الأفكار المناهضة للسلطة وتفنّد حجج الأطباء الذين تجعلهم يوافقون على المشاركة في منظومة التعذيب.

المساهمون