30 ديسمبر 2021
"بدرخان" يحكي عن أيامه الحلوة والمرة مع سعاد حسني(1/2)
كان المخرج الكبير علي بدرخان يجلس منكباً على مكتبه لإنجاز بعض الأعمال العاجلة، بينما كان جهاز التلفزيون المواجه لمكتبه يعرض برنامجاً قصيراً يضم بعضاً من أشهر مشاهد الإغراء التي قدمتها جميلة الجميلات سعاد حسني. كان الساعي الذي يساعد علي بدرخان قد أدخل له بعض الأوراق، ووقف في انتظار توقيعها يتفرج على البرنامج منبهراً كما ينبغي لكل من شاهد سعاد حسني أن ينبهر، وفجأة، بعد انتهاء البرنامج نظر إلى علي بدرخان وقال له بعد تنهيدة طويلة: "يا بختك يا أستاذ علي"، وحين انفجرنا بالضحك لأن الساعي قال ما كنا نتمنى أن نقوله كل يوم، سارع الساعي بالخروج من المكتب ليهرب من "طفاية سجائر" هدده الأستاذ علي بها، قبل أن ينظر إلينا زاغراً لنمنع الضحك، ثم يضحك من قلبه.
كنا وقتها في عام 1998، وكان حظي الحسن قد جمعني مع الأستاذ علي بدرخان تحت سقف واحد في قناة راديو وتلفزيون العرب ART، التي كان يعمل فيها مشرفاً فنياً على إدارة الإخراج، ومع أنني كنت أعمل تحت رئاسة الكاتب الصحافي الأستاذ لويس جريس المشرف على إدارة الإعداد، إلا أنني كنت أفضل أن أقضي أكبر وقت متاح في مكتب علي بدرخان، الذي كان بمثابة جامعة مفتوحة عوضتني عن حسرتي الدائمة لعدم تمكني من دخول معهد السينما، ولن أنسى ماحييت الأيام التي عايشت فيها علي بدرخان وهو يفتح مكتبه وقلبه وعقله طيلة مواعيد العمل الرسمية وبعدها لشباب في سن الضياع، يتخانق مع الإدارة من أجلهم إن جارت عليهم، ويحل خناقاتهم الصغيرة إن لجأوا لفقع الزُنَب في بعضهم، لا يطلب من أحدنا مغادرة مكتبه إن جلسنا فيه بكل غتاتة فيه، ويحلف بالعظيم ثلاثة أن نشاركه في غدائه، ولا يكف عن سؤالنا عن أحوالنا وأفكارنا و"نشرب إيه". نراقب لقاءاته مع كبار نجوم مصر الذين يزورونه من حين لآخر، ونستمتع بحكاياته عن دروس السينما والحياة التي تعلمها من والده المخرج أحمد بدرخان أحد أهم رواد السينما في مصر، وعن ذكريات اشتراكه في رحلة سفينة مناصرة فلسطين التي أبحرت إلى بيروت لتتضامن مع ياسر عرفات فور وقوع الإجتياح الإسرائيلي لبيروت، عن ذكريات اعتقاله مع نجم والشيخ إمام أيام السادات، عن اشتراكه في معركة قانون النقابات الفنية التي خاضها الكثير من الفنانين ضد الدولة ممثلة في رئيس اتحاد النقابات الفنية وقتها سعد الدين وهبة، عن علاقته المركبة مع يوسف شاهين أستاذه الذي يحبه بشدة لكنه لم يقع تحت لعنة التأثر به أبدا، عن كردستان أرض أجداده التي كان قد زارها وقتها، وعن القضية الكردية وأستاذه وأستاذنا صلاح جاهين، عن معهد السينما الذي يحلم بتطويره، وأحلامه الفنية المتعثرة التي ظل ـ ولا يزال ـ يطاردها، وخناقاته التي لا تتوقف مع أحمد زكي والتي شاهدت بعضها باستمتاع شديد بمشاهدة الجنون الفني "لايف".
لكن برغم كل ذلك، لم تكن سعاد حسني حاضرة بقوة في حكايات الأستاذ علي لنا، رغم أنه كان شريك حياتها طيلة 11 عاماً هي عمر زواجهما، وشريكها الفني في أفلام جميلة ومهمة مثل الحب الذي كان وشفيقة ومتولي والجوع والكرنك والراعي والنساء، إلا إذا حكى بشكل عابر ذكرى لها علاقة بتصوير مشهد ما في تلك الأفلام، وأذكر أنني حضرته وهو يرفض لأكثر من مرة إجراء حوارات صحفية وتلفزيونية يتحدث فيها عن علاقته الفنية والإنسانية بسعاد حسني، ولم يكن الأمر يحتاج إلى كثير من "الفكاكة" والنباهة لإدراك أن سعاد حسني تمثل عصباً مكشوفاً لعلي بدرخان التي يؤكد للجميع أنها "الحب الذي كان" وتجاوزه إلى تجارب إنسانية أخرى، وربما كان الأمر كذلك بالفعل، لكنني كنت وقتها مصراً على أن حب سعاد حسني لا يمكن أن يزول أو يمضي، ولذلك كنت أتصور أنني سأستطيع في لحظة ما أن أنتزع الاعتراف من علي بدرخان بأنه لم يتخل عن حب سعاد حسني أبداً، ولم ينسها للحظة، لكنني كنت أنتظر اللحظة المناسبة، لكي لا أضطر للخروج من مكتبه هارباً مثل الساعي الذي قال له متنهداً: "يا بختك يا أستاذ علي".
وحين استجبت لدعوة الأستاذ رجاء النقاش للمشاركة في إصدار عدد خاص من مجلة (الكواكب) عن سعاد حسني، تضامناً معها بعد المقال المنحط الذي نشرته الكاتبة مديحة عزت في مجلة (روز اليوسف) وزعمت فيه أن سعاد تتسول في العاصمة البريطانية وتأكل من صندوق القمامة، قلت للأستاذ رجاء إنني أشعر أن الوقت قد يكون مناسباً لو طلبت من علي بدرخان أن أقوم بعمل حوار معه عن تجربته الفنية والإنسانية مع سعاد حسني، خصوصاً إذا أخبرته بفكرة العدد الخاص والهدف من إصداره، وكنت محقاً فيما تصورته، لأن علي بدرخان لم يتردد هذه المرة في إجراء الحوار، وتحدث فيه بمنتهى الصراحة، وحرص على أن يصل العدد الخاص إلى سعاد حسني في لندن فور صدوره، بل وساعدني أنا وزملائي بعد ذلك بفترة قصيرة على إقناع سعاد حسني بالمشاركة في اتصال هاتفي على الهواء مباشرة في سهرة خاصة قمنا بعملها عن أستاذهما وأبيهما الروحي صلاح جاهين.
اخترت للحوار عنوان "علي بدرخان: أنا وسعاد وايامنا الحلوة والمرة"، وقال لي الأستاذ رجاء إنه سيضيف إليه عبارة "لأول مرة يتحدث عنها"، فقلت له إني غير متأكد من كونه يتحدث عنها لأول مرة، لكنه قال إنه طلب من أحد مساعديه التأكد من ذلك بالرجوع إلى أرشيف دار الهلال، الذي كان ولا يزال من أغنى أرشيفات الصحف المصرية، ولا أدري إذا كان الأستاذ علي قد تحدث بعد ذلك عن علاقته مع سعاد حسني باستفاضة أم لا، لكن المهم بالنسبة لي أنه كان يتحدث بتأثر شديد عن سعاد حسني، وكان في قمة الضيق مما نشر عنها في (روز اليوسف) لدرجة أنه فكر مع عدد من أصدقائه في رفع دعوى قضائية على المجلة والكاتبة، ومع أنه كان حريصاً في مواضع متفرقة من الحوار على أن يستفيض في الحديث عن أهمية سعاد حسني الفنية، والإضافة التي قدمتها لفن التمثيل في مصر، ومقارنتها بأداء العديد من نجمات السينما في العالم، لكن المساحة المخصصة لنشر الحوار لم تتسع لكل ما قاله، وتم حذف كل ما لم يكن له علاقة بحديثه المباشر عن سعاد حسني، باستثناء سؤال عن تجربة فيلم (الكرنك)، وللأسف فقدت مسودات الحوار، ولذلك أكتفي هنا بنشر نص الحوار الذي نشر في مجلة (الكواكب):
"أول لقاء لي مع سعاد كان وأنا باشتغل مساعد لوالدي المخرج الكبير أحمد بدرخان في فيلم (نادية)، كان دور سعاد في الفيلم يتطلب إجادتها للسباحة، وتم تكليفي بتعليمها السباحة، خاصة أني كنت سباحاً ماهراً، وبدأنا نعوم سوياً في حمام السباحة في كازينو قصر النيل، انت عارف الواحد لما ينط في حمام السباحة بيعمل كرباج مع المية زي ما يسموه، وكنت باعلمها إزاي تنط بدماغها في حمام السباحة، والظاهر إني تحمست أكتر من اللازم وأنا باعلمها، ونسيت إننا كنا بنعوم في حتة مش غريقة، فكانت النتيجة إن سعاد بعد ما راحت تنط، خبطت دماغها في بلاط حمام السباحة وراسها اتفتحت، ولإننا كنا بنروح حمام السباحة في وقت ما يبقاش فيه زحمة، ما كانش في حد ممكن يساعدنا، فعملنا الطقوس الشعبية الشهيرة للي دماغه بتتفتح، جبنا باريزة وربطنا دماغها بإيشارب، وكنا بنضحك من قلبنا، وبدأت الصداقة بيننا من وقتها، يعني بدأت بحادثة.
كانت طيبة جداً، وقويت الصداقة بيننا في وقت قصير، نروح سينما، نعوم في فندق عمر الخيام وحاجات زي كده، وكانت في الأول لما تخرج معايا، تحرص إنه يبقى معانا واحد من اخواتها، وأخت ليها وبنات أختها وساعات يبقى معانا وليد ابن أختها نجاة، وفي مرة زهقت من الموضوع ده وقلت لها بلاش نظام روضة الأطفال ده كلما نخرج، وضحكت وفهمت إني واخد علاقتي بيها بجد، وابتدينا نخرج مع بعض لوحدنا. وقتها كان والدي اشتد عليه المرض وتوقف التصوير في الفيلم، ورحت أنا وسعاد عشان نصيف في جمصة، مش فاكر هل ده كان في الصيف ولا لأ، أظن كان قبل الصيف عشان ما يبقاش في زحمة والناس تتلم حواليها، المهم يعني حد يعرفني شافنا هناك، وقابل أبويا وقال له: "أيوه يا عم ابنك في جمصة مع سعاد حسني".
لما رجعت من جمصة أبويا سألني: "في حاجة بينك وبين سعاد حسني؟ لو في حب بينكم لازم تبقى واضح في تصرفاتك علشان الناس ما تتكلمش عليها، لازم تهتم بسمعتها أكتر من اي حاجة"، وافقته على اللي قاله، كنا وقتها لازم نسافر فرنسا أنا وسعاد عشان نكمل الشغل في الفيلم لإني أنا اللي كملت التصوير، وكنا بنشتغل بالنهار ونسهر بالليل، وقلنا نعمل خطوبة، واتخطبنا، وبعدها سافرت إلى روما في رحلة لدراسة السينما، الرحلة قعدت 8 شهور وكنت فيها لوحدي، وكنا بنبعت لبعض جوابات، وكانت جواباتها قليلة، وكتبت لها أقول: ما تبقيش بخيلة، وفي ليلة راس السنة عايدنا على بعض عبر نجمة من نجوم السماء، هاقولك إزاي، اتفقنا إننا نبص لها احنا الاتنين لما الساعة تيجي 12 بالضبط، وكنت في غاية السعادة وحاسس إني معاها.
كان عيد ميلادها في 26 يناير، وكنت أنا لسه مسافر في روما، لكن طلبت من والدتي إنها تروح لها وتعايد عليها وتقدم لها "حلق مدلِّل" كنت اشتريته لها من روما، ولما رجعت من السفر عرفت إنها أصلاً ما بتحبش "الحلقان المدللة"، وبتفضل الحلقان الصغيرة، وكان المفروض إننا نتجوز على طول، لكن للأسف تأخر زواجنا بسبب وفاة والدي الله يرحمه، واتجوزنا بعد سبع شهور من وفاته في مناسبة اقتصرت على الأهل وأقرب الأصدقاء بسبب ظروف الوفاة.
ـ أستاذ علي، لما حصل الزواج كنت وقتها تعمل مساعد مخرج ليوسف شاهين في فيلم (الاختيار) الذي كانت سعاد بطلته، وما أعرفه أنك لم تكن تحب أغلب أدوار سعاد حسني وقتها، وكان لديك توجه سياسي معلن وخلفية ثقافية حريص على أن تنطلق في عملك من خلالها، كيف أثر ذلك على علاقتك بسعاد؟
بصراحة، لم أكن أحب أغلب أدوار سعاد في تلك الفترة، لأنني كنت أؤمن أن طاقتها أكبر من هذه الأدوار، وكنت مؤمن إن على الممثل أن يكون لديه قضية وموقف، وصارحتها برأيي منذ البداية، أنا ما كنتش منتمي لحزب أو تنظيم سياسي، ولا اشتغلت في السياسة بشكل علني، كنت عامل لنفسي الحزب بتاعي، وما فكرتش أبقى ملتزم حزبيا برغم إني مقتنع بأفكار اليسار، وكان لي نشاط كثير في ندوات وتجمعات ثقافية وسياسية، لكني كنت أحب الحرية في التفكير، وهي كان عندها نفس الحكاية بالطبيعة وبالفطرة، ومن خلال صداقاتها مع عدد من كبار المثقفين، وكان بيلعب دور كبير في تعميق ثقافتي وثقافتها وأفكارنا أشخاص مثل صلاح جاهين وكمال عبد الحليم وعلي الشريف وكمال الطويل، وكل هؤلاء الناس كان لهم دور وتواجد وفاعليه في تشكيل نظرة سعاد للفن والحياة والمجتمع.
ـ من المشاهد الشهيرة لكما في هذه الفترة وأنتما في بداية الزواج، مشهد سيركما في جنازة عبد الناصر، كانت سعاد تبكي وهي تستند على ذراعك، لكن بعد سنوات قليلة قمت بإخراج فيلم (الكرنك) المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ، والذي لعبت سعاد بطولته وشارك صلاح جاهين في بطولته، وبرغم إعجاب الكثيرين بمستواه الفني، لكن البعض اعتبره مغازلة للسلطة الجديدة التي سمحت بخروج الفيلم للنور، ألم يكن هذا غريبا منك ومن سعاد حسني؟
(لأول مرة انفعل الأستاذ علي منذ بدأنا الحوار)
شوف، أنا ضد سياسة (اذكروا محاسن موتاكم)، فترة عبد الناصر كان لها مزايا ومساوئ، والفيلم رصدها ولا أحد يختلف على وجود أجهزة كان لها دور سلبي في ذلك الوقت، وأنا كنت ولا أزال ضد عمل أفلام دعائية فجة، وفي رأيي إن (الكرنك) عاش طول السنين دي لإنه رصد ما تم للإنسان في أي مكان فيه ظلم، ورفع دعوى ضد قهر الإنسان، إنما لما يبقى في نظام عايز يستغل الفيلم بتاعي لصالحه وده تم من خلال أجهزة الإعلام، فده مش شغلي أنا، حاسبني على الفيلم مش على الضجة اللي اتعملت وراه واتلعب فيها من ناس عايزة تشوه صورة عبد الناصر، وبعدين ما فيش حد من اللي كانوا بيشتغلوا في الفيلم مش ناصري ومش يساري، لو أنا عامل الفيلم علشان أغازل السلطة، ما كانش الجمهور شافني، والشعب ده عنده ثقافة ووعي ومش محتاج لأوصياء، أنا عامل الفيلم علشان القاعدة العريضة من الناس مش عشان الأوصياء اللي بيكتبوا، وبعدين اسأل نفسك لماذا لا يعرض الفيلم في التلفزيون منذ أيام السادات حتى الآن.
...
نكمل غداً بإذن الله
كنا وقتها في عام 1998، وكان حظي الحسن قد جمعني مع الأستاذ علي بدرخان تحت سقف واحد في قناة راديو وتلفزيون العرب ART، التي كان يعمل فيها مشرفاً فنياً على إدارة الإخراج، ومع أنني كنت أعمل تحت رئاسة الكاتب الصحافي الأستاذ لويس جريس المشرف على إدارة الإعداد، إلا أنني كنت أفضل أن أقضي أكبر وقت متاح في مكتب علي بدرخان، الذي كان بمثابة جامعة مفتوحة عوضتني عن حسرتي الدائمة لعدم تمكني من دخول معهد السينما، ولن أنسى ماحييت الأيام التي عايشت فيها علي بدرخان وهو يفتح مكتبه وقلبه وعقله طيلة مواعيد العمل الرسمية وبعدها لشباب في سن الضياع، يتخانق مع الإدارة من أجلهم إن جارت عليهم، ويحل خناقاتهم الصغيرة إن لجأوا لفقع الزُنَب في بعضهم، لا يطلب من أحدنا مغادرة مكتبه إن جلسنا فيه بكل غتاتة فيه، ويحلف بالعظيم ثلاثة أن نشاركه في غدائه، ولا يكف عن سؤالنا عن أحوالنا وأفكارنا و"نشرب إيه". نراقب لقاءاته مع كبار نجوم مصر الذين يزورونه من حين لآخر، ونستمتع بحكاياته عن دروس السينما والحياة التي تعلمها من والده المخرج أحمد بدرخان أحد أهم رواد السينما في مصر، وعن ذكريات اشتراكه في رحلة سفينة مناصرة فلسطين التي أبحرت إلى بيروت لتتضامن مع ياسر عرفات فور وقوع الإجتياح الإسرائيلي لبيروت، عن ذكريات اعتقاله مع نجم والشيخ إمام أيام السادات، عن اشتراكه في معركة قانون النقابات الفنية التي خاضها الكثير من الفنانين ضد الدولة ممثلة في رئيس اتحاد النقابات الفنية وقتها سعد الدين وهبة، عن علاقته المركبة مع يوسف شاهين أستاذه الذي يحبه بشدة لكنه لم يقع تحت لعنة التأثر به أبدا، عن كردستان أرض أجداده التي كان قد زارها وقتها، وعن القضية الكردية وأستاذه وأستاذنا صلاح جاهين، عن معهد السينما الذي يحلم بتطويره، وأحلامه الفنية المتعثرة التي ظل ـ ولا يزال ـ يطاردها، وخناقاته التي لا تتوقف مع أحمد زكي والتي شاهدت بعضها باستمتاع شديد بمشاهدة الجنون الفني "لايف".
لكن برغم كل ذلك، لم تكن سعاد حسني حاضرة بقوة في حكايات الأستاذ علي لنا، رغم أنه كان شريك حياتها طيلة 11 عاماً هي عمر زواجهما، وشريكها الفني في أفلام جميلة ومهمة مثل الحب الذي كان وشفيقة ومتولي والجوع والكرنك والراعي والنساء، إلا إذا حكى بشكل عابر ذكرى لها علاقة بتصوير مشهد ما في تلك الأفلام، وأذكر أنني حضرته وهو يرفض لأكثر من مرة إجراء حوارات صحفية وتلفزيونية يتحدث فيها عن علاقته الفنية والإنسانية بسعاد حسني، ولم يكن الأمر يحتاج إلى كثير من "الفكاكة" والنباهة لإدراك أن سعاد حسني تمثل عصباً مكشوفاً لعلي بدرخان التي يؤكد للجميع أنها "الحب الذي كان" وتجاوزه إلى تجارب إنسانية أخرى، وربما كان الأمر كذلك بالفعل، لكنني كنت وقتها مصراً على أن حب سعاد حسني لا يمكن أن يزول أو يمضي، ولذلك كنت أتصور أنني سأستطيع في لحظة ما أن أنتزع الاعتراف من علي بدرخان بأنه لم يتخل عن حب سعاد حسني أبداً، ولم ينسها للحظة، لكنني كنت أنتظر اللحظة المناسبة، لكي لا أضطر للخروج من مكتبه هارباً مثل الساعي الذي قال له متنهداً: "يا بختك يا أستاذ علي".
وحين استجبت لدعوة الأستاذ رجاء النقاش للمشاركة في إصدار عدد خاص من مجلة (الكواكب) عن سعاد حسني، تضامناً معها بعد المقال المنحط الذي نشرته الكاتبة مديحة عزت في مجلة (روز اليوسف) وزعمت فيه أن سعاد تتسول في العاصمة البريطانية وتأكل من صندوق القمامة، قلت للأستاذ رجاء إنني أشعر أن الوقت قد يكون مناسباً لو طلبت من علي بدرخان أن أقوم بعمل حوار معه عن تجربته الفنية والإنسانية مع سعاد حسني، خصوصاً إذا أخبرته بفكرة العدد الخاص والهدف من إصداره، وكنت محقاً فيما تصورته، لأن علي بدرخان لم يتردد هذه المرة في إجراء الحوار، وتحدث فيه بمنتهى الصراحة، وحرص على أن يصل العدد الخاص إلى سعاد حسني في لندن فور صدوره، بل وساعدني أنا وزملائي بعد ذلك بفترة قصيرة على إقناع سعاد حسني بالمشاركة في اتصال هاتفي على الهواء مباشرة في سهرة خاصة قمنا بعملها عن أستاذهما وأبيهما الروحي صلاح جاهين.
اخترت للحوار عنوان "علي بدرخان: أنا وسعاد وايامنا الحلوة والمرة"، وقال لي الأستاذ رجاء إنه سيضيف إليه عبارة "لأول مرة يتحدث عنها"، فقلت له إني غير متأكد من كونه يتحدث عنها لأول مرة، لكنه قال إنه طلب من أحد مساعديه التأكد من ذلك بالرجوع إلى أرشيف دار الهلال، الذي كان ولا يزال من أغنى أرشيفات الصحف المصرية، ولا أدري إذا كان الأستاذ علي قد تحدث بعد ذلك عن علاقته مع سعاد حسني باستفاضة أم لا، لكن المهم بالنسبة لي أنه كان يتحدث بتأثر شديد عن سعاد حسني، وكان في قمة الضيق مما نشر عنها في (روز اليوسف) لدرجة أنه فكر مع عدد من أصدقائه في رفع دعوى قضائية على المجلة والكاتبة، ومع أنه كان حريصاً في مواضع متفرقة من الحوار على أن يستفيض في الحديث عن أهمية سعاد حسني الفنية، والإضافة التي قدمتها لفن التمثيل في مصر، ومقارنتها بأداء العديد من نجمات السينما في العالم، لكن المساحة المخصصة لنشر الحوار لم تتسع لكل ما قاله، وتم حذف كل ما لم يكن له علاقة بحديثه المباشر عن سعاد حسني، باستثناء سؤال عن تجربة فيلم (الكرنك)، وللأسف فقدت مسودات الحوار، ولذلك أكتفي هنا بنشر نص الحوار الذي نشر في مجلة (الكواكب):
"أول لقاء لي مع سعاد كان وأنا باشتغل مساعد لوالدي المخرج الكبير أحمد بدرخان في فيلم (نادية)، كان دور سعاد في الفيلم يتطلب إجادتها للسباحة، وتم تكليفي بتعليمها السباحة، خاصة أني كنت سباحاً ماهراً، وبدأنا نعوم سوياً في حمام السباحة في كازينو قصر النيل، انت عارف الواحد لما ينط في حمام السباحة بيعمل كرباج مع المية زي ما يسموه، وكنت باعلمها إزاي تنط بدماغها في حمام السباحة، والظاهر إني تحمست أكتر من اللازم وأنا باعلمها، ونسيت إننا كنا بنعوم في حتة مش غريقة، فكانت النتيجة إن سعاد بعد ما راحت تنط، خبطت دماغها في بلاط حمام السباحة وراسها اتفتحت، ولإننا كنا بنروح حمام السباحة في وقت ما يبقاش فيه زحمة، ما كانش في حد ممكن يساعدنا، فعملنا الطقوس الشعبية الشهيرة للي دماغه بتتفتح، جبنا باريزة وربطنا دماغها بإيشارب، وكنا بنضحك من قلبنا، وبدأت الصداقة بيننا من وقتها، يعني بدأت بحادثة.
كانت طيبة جداً، وقويت الصداقة بيننا في وقت قصير، نروح سينما، نعوم في فندق عمر الخيام وحاجات زي كده، وكانت في الأول لما تخرج معايا، تحرص إنه يبقى معانا واحد من اخواتها، وأخت ليها وبنات أختها وساعات يبقى معانا وليد ابن أختها نجاة، وفي مرة زهقت من الموضوع ده وقلت لها بلاش نظام روضة الأطفال ده كلما نخرج، وضحكت وفهمت إني واخد علاقتي بيها بجد، وابتدينا نخرج مع بعض لوحدنا. وقتها كان والدي اشتد عليه المرض وتوقف التصوير في الفيلم، ورحت أنا وسعاد عشان نصيف في جمصة، مش فاكر هل ده كان في الصيف ولا لأ، أظن كان قبل الصيف عشان ما يبقاش في زحمة والناس تتلم حواليها، المهم يعني حد يعرفني شافنا هناك، وقابل أبويا وقال له: "أيوه يا عم ابنك في جمصة مع سعاد حسني".
لما رجعت من جمصة أبويا سألني: "في حاجة بينك وبين سعاد حسني؟ لو في حب بينكم لازم تبقى واضح في تصرفاتك علشان الناس ما تتكلمش عليها، لازم تهتم بسمعتها أكتر من اي حاجة"، وافقته على اللي قاله، كنا وقتها لازم نسافر فرنسا أنا وسعاد عشان نكمل الشغل في الفيلم لإني أنا اللي كملت التصوير، وكنا بنشتغل بالنهار ونسهر بالليل، وقلنا نعمل خطوبة، واتخطبنا، وبعدها سافرت إلى روما في رحلة لدراسة السينما، الرحلة قعدت 8 شهور وكنت فيها لوحدي، وكنا بنبعت لبعض جوابات، وكانت جواباتها قليلة، وكتبت لها أقول: ما تبقيش بخيلة، وفي ليلة راس السنة عايدنا على بعض عبر نجمة من نجوم السماء، هاقولك إزاي، اتفقنا إننا نبص لها احنا الاتنين لما الساعة تيجي 12 بالضبط، وكنت في غاية السعادة وحاسس إني معاها.
كان عيد ميلادها في 26 يناير، وكنت أنا لسه مسافر في روما، لكن طلبت من والدتي إنها تروح لها وتعايد عليها وتقدم لها "حلق مدلِّل" كنت اشتريته لها من روما، ولما رجعت من السفر عرفت إنها أصلاً ما بتحبش "الحلقان المدللة"، وبتفضل الحلقان الصغيرة، وكان المفروض إننا نتجوز على طول، لكن للأسف تأخر زواجنا بسبب وفاة والدي الله يرحمه، واتجوزنا بعد سبع شهور من وفاته في مناسبة اقتصرت على الأهل وأقرب الأصدقاء بسبب ظروف الوفاة.
ـ أستاذ علي، لما حصل الزواج كنت وقتها تعمل مساعد مخرج ليوسف شاهين في فيلم (الاختيار) الذي كانت سعاد بطلته، وما أعرفه أنك لم تكن تحب أغلب أدوار سعاد حسني وقتها، وكان لديك توجه سياسي معلن وخلفية ثقافية حريص على أن تنطلق في عملك من خلالها، كيف أثر ذلك على علاقتك بسعاد؟
بصراحة، لم أكن أحب أغلب أدوار سعاد في تلك الفترة، لأنني كنت أؤمن أن طاقتها أكبر من هذه الأدوار، وكنت مؤمن إن على الممثل أن يكون لديه قضية وموقف، وصارحتها برأيي منذ البداية، أنا ما كنتش منتمي لحزب أو تنظيم سياسي، ولا اشتغلت في السياسة بشكل علني، كنت عامل لنفسي الحزب بتاعي، وما فكرتش أبقى ملتزم حزبيا برغم إني مقتنع بأفكار اليسار، وكان لي نشاط كثير في ندوات وتجمعات ثقافية وسياسية، لكني كنت أحب الحرية في التفكير، وهي كان عندها نفس الحكاية بالطبيعة وبالفطرة، ومن خلال صداقاتها مع عدد من كبار المثقفين، وكان بيلعب دور كبير في تعميق ثقافتي وثقافتها وأفكارنا أشخاص مثل صلاح جاهين وكمال عبد الحليم وعلي الشريف وكمال الطويل، وكل هؤلاء الناس كان لهم دور وتواجد وفاعليه في تشكيل نظرة سعاد للفن والحياة والمجتمع.
ـ من المشاهد الشهيرة لكما في هذه الفترة وأنتما في بداية الزواج، مشهد سيركما في جنازة عبد الناصر، كانت سعاد تبكي وهي تستند على ذراعك، لكن بعد سنوات قليلة قمت بإخراج فيلم (الكرنك) المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ، والذي لعبت سعاد بطولته وشارك صلاح جاهين في بطولته، وبرغم إعجاب الكثيرين بمستواه الفني، لكن البعض اعتبره مغازلة للسلطة الجديدة التي سمحت بخروج الفيلم للنور، ألم يكن هذا غريبا منك ومن سعاد حسني؟
(لأول مرة انفعل الأستاذ علي منذ بدأنا الحوار)
شوف، أنا ضد سياسة (اذكروا محاسن موتاكم)، فترة عبد الناصر كان لها مزايا ومساوئ، والفيلم رصدها ولا أحد يختلف على وجود أجهزة كان لها دور سلبي في ذلك الوقت، وأنا كنت ولا أزال ضد عمل أفلام دعائية فجة، وفي رأيي إن (الكرنك) عاش طول السنين دي لإنه رصد ما تم للإنسان في أي مكان فيه ظلم، ورفع دعوى ضد قهر الإنسان، إنما لما يبقى في نظام عايز يستغل الفيلم بتاعي لصالحه وده تم من خلال أجهزة الإعلام، فده مش شغلي أنا، حاسبني على الفيلم مش على الضجة اللي اتعملت وراه واتلعب فيها من ناس عايزة تشوه صورة عبد الناصر، وبعدين ما فيش حد من اللي كانوا بيشتغلوا في الفيلم مش ناصري ومش يساري، لو أنا عامل الفيلم علشان أغازل السلطة، ما كانش الجمهور شافني، والشعب ده عنده ثقافة ووعي ومش محتاج لأوصياء، أنا عامل الفيلم علشان القاعدة العريضة من الناس مش عشان الأوصياء اللي بيكتبوا، وبعدين اسأل نفسك لماذا لا يعرض الفيلم في التلفزيون منذ أيام السادات حتى الآن.
...
نكمل غداً بإذن الله