خمس كاميرات مكسورة ومئة سؤال حائر (2 من 2)

28 ديسمبر 2021
+ الخط -

في المساء اكتشفت أن نصيحة صديقتي كانت مهمة، فلولا أننا جئنا مبكرين لظللنا واقفين في طابور طويل مكتظ بأكثر من 500 شخص حرصوا على مشاهدة الفيلم، وكان هناك خمسمائة قد حضروا الحفلة التي سبقتنا، ومثلهم وجدناهم يقفون في طابور طويل لحضور الحفلة التالية لنا، وأزعم باستقراء سريع لوجوه من رأيت أن نسبة العرب أو الشرق أوسطيين الحاضرين لم تكن تتعدى الخمسة في المائة على أقصى تقدير، بل كان هناك حضور يهودي لافت بعضه ليهوديين متدينين تصورت لوهلة أن بعضهم جاء لإحداث شغب مثلاً، بعضهم كان يجلس في نفس الصف إلى جواري وأقسم بالله إنه كان يشاركني في التصفيق الحاد للفيلم عقب انتهائه.

كان الفيلم تحفة فنية بكل المقاييس، في أجزاء كثيرة منه كانت تتعالى أصوات البكاء من مواضع متفرقة من الصالة تعاطفاً مع أحزان الفلسطينيين ومآسيهم، لن أنسى أبدا كيف توحدت الصالة في شهقة واحدة علت بعدها كلمات مثل "يا إلهي.. أوه لا.. لماذا" عقب لقطة تصور مقتل مواطن فلسطيني كان حضوره شديد المرح والحيوية والإبهاج منذ بدأت أحداث الفيلم، ثم أصيب فجأة برصاصة إسرائيلية في رقبته جاءته من بندقية قناص إسرائيلي يقف خلف الحاجز الذي كان المواطن الفلسطيني "عبد" يتظاهر من أجل هدمه مع مجموعة من نشطاء السلام الدوليين، وأخذت الكاميرا تصور في لقطات صادمة صادقة كيف فارق الحياة أمام أعين الجميع.

لا أمتلك براعة الناقد العظيم رؤوف توفيق لكي أتمكن من حكاية الفيلم لكم، وإلى أن تتسنى لكم مشاهدته دعوني أقلْ لكم إنني على كثرة ما شاهدت من أعمال سينمائية فلسطينية روائية وتسجيلية، لم أشاهد فيلما صادقاً وبارعاً مثله في عرضه للمأساة الفلسطينية بمزيج سحري من الضحك والدموع والمرارة والعبث. بعد أن أضيئت الأنوار وجدنا أحد العاملين في منتدى الفيلم يمسك بالميكروفون ويقول لنا بسعادة بالغة إننا نحن الذين حضرنا هذه الحفلة والذين سيحضرون الحفلة التالية محظوظون لأن مخرج الفيلم الفلسطيني عماد برنات وشريكه في صنع الفيلم قد وصلا قبل ساعات إلى نيويورك لحضور عروض الفيلم الذي تجري محاولات جادة لكي يخوض منافسات مسابقة الأوسكار على فئة أحسن فيلم وثائقي. (حدث بالفعل وتم ترشيح الفيلم رسميا للمنافسة على أوسكار أحسن فيلم وثائقي).

صفقت القاعة لدقائق احتفاء بصانعي الفيلم اللذيْن بكيا من فرط تأثرهما برد فعل الناس الحماسي. مع الكلمات الأولى التي تم بها تقديمهما للحاضرين فوجئت بمعلومة لم أكن أعرفها وهي أن مخرج الفيلم المشارك جاي ديفيدي ليس يهودياً فقط كما كنت أعتقد بل هو أيضا إسرائيلي الجنسية، كنت قد قرأت في تيترات افتتاح الفيلم أن هناك جهات إسرائيلية مستقلة شاركت في إنتاجه، قالت لي الصديقة الأمريكية إنها جهات تعتبر ملعونة من قبل اليمين الإسرائيلي، بل ويصنف بعضها في حكم مرتكبي الخيانة العظمى لإسرائيل. متحدياً رددت على صديقتي الأمريكية المحايدة بشكل كان يثير غيظي دائما: "يبدو أن اللعبة الإسرائيلية لإظهار ديمقراطية المجتمع قد انقلبت على أصحابها هذه المرة، فما يصنعونه عادة من أفلام إسرائيلية فلسطينية مشتركة يكون معتمدا في الأساس على المساواة بين الجلاد والضحية وإظهار أن الجميع مخطئ ومتورط في العنف، ولم أجد فيه على الأقل من وجهة نظري فيلما صادقا مع النفس بشكل حقيقي، هذه المرة باظت الطبخة ربما لأن هذا المخرج الإسرائيلي يبدو لي من ملامحه رجلا صادقا مع نفسه ولديه ضمير يقظ". قالت لي ضاحكة: "جميل طالما تراه هكذا، لماذا لا أجمعك به وتتحاوران معا وأنشر حواركما في صحيفتي؟". قلت لها وأنا أرد لها الكرة: "جميل دعيه يعلن أنه سيتنازل عن جنسية دولة ترتكب كل هذه الفظائع التي قام بتوثيقها بنفسه وأنا موافق على عرضك". قالت لي جادة هذه المرة: "سيكون عليَّ في هذه الحالة أن أحضر له ردا إذا سألني: ولماذا لا تتنازلين عن جنسيتك الأمريكية بعد كل ما تم ارتكابه من فظائع في فيتنام والعراق؟". من الخلف جاءنا صوت يطلب منا أن نتوقف عن الهمس، وننصت إلى النقاش الذي كان قد بدأ بين صانعي الفيلم والحاضرين. 

كان من أوائل السائلين صحفي أمريكي متخصص في الشرق الأوسط وجه سؤاله للمخرج الإسرائيلي قائلا له إنه عاش لفترة في إسرائيل ويعرف المجتمع الإسرائيلي جيدا، وإنه يريد منه أن يجيب بصراحة عن سؤاله: "كيف يمكن أن تعرض فيلما كهذا في إسرائيل؟ ألا تعلم أنه سيثير غضب المعتدلين قبل المتشددين؟ كيف ستصمد في وجه الهجوم الشرس الذي ستتعرض له؟"، سكنت ابتسامة مريرة وجه المخرج الإسرائيلي وقال له: "لا أدري، المفروض أن الفيلم سيعرض في مهرجان إسرائيلي بعد أشهر، هذا ما وعدت به، ولا أدري إذا كان سيتم سحب ذلك الوعد أم لا، لكن ما أدريه أنني لم أفعل شيئا به تحيز ولا مبالغة، ولم أنقل سوى الحقيقة كما روتها كاميرات عماد التي تم تحطيمها، ولا أريد أن أنقل النقاش إلى السياسة الآن فالفيلم يقول كل شيء أريد أن أقوله، وأفضل أن توجهوا أسئلتكم لصديقي عماد فهو البطل الحقيقي للفيلم".

عقب الندوة القصيرة ذهبت صديقتي الصحفية الأمريكية إلى المخرج الإسرائيلي لكي ترتب معه موعداً لمقابلة لصحيفتها، بينما اتجهت إلى المصور الفلسطيني بطل الفيلم والذي كان يحاول التواصل مع المعجبين به متعثراً في إنجليزيته الرديئة حتى بالنسبة إلى إنجليزيتي. انتظرته حتى فرغ من الحديث مع سيدتين عرفتا نفسيهما له بأنهما يهوديتان مقيمتان في نيويورك منذ سنين، وكانتا تقولان له بحماس إنهما تمنيا أن يشاهد كل يهودي في نيويورك الفيلم في يوم كهذا، لكي يعلموا كم الإساءة الذي تقدمه إسرائيل لليهودية واليهود. لم تكن إنجليزيتي ولا الزحام المحيط بي قابلين لكي أقوم بتوسيع المناقشة بما قرأته من كتب الدكتور عبد الوهاب المسيري أو إدوارد سعيد، لذلك اضطررت لأن أكون قليل الذوق وأقطع حواره معهما، فأحدثه باللهجة المصرية التي أشرق وجهه عندما سمعها، سألته كيف رأى فيلمه ابنه الصغير جبريل ذو الأعوام الستة والذي يحكي الفيلم قصته منذ ولد ويربطها بعبقرية برحلة الكاميرات الخمس مع البطش الإسرائيلي، ثم سألته بحماس شديد: هل يمانع أن يتم عرض فيلمه في مصر لأن كل عربي بحاجة لمشاهدة هذا الفيلم على الفور.

نظر إليَّ بحزن شديد وقال لي: يبدو أنك تعيش بعيدا عن مصر. قلت له بتلقائية: لا، أنا هنا في إجازة قصيرة وأنا كاتب سيناريو ويمكنني أن أساعدك لعرض الفيلم في أسرع وقت ممكن. نظر إليَّ بابتسامة تجمع بين السخرية والمرارة وقال لي: وهل ستتحمل اتهامك بالتطبيع مع العدو الإسرائيلي؟ ثم قال لي إنه عندما تم عرض الفيلم في باريس شاهده ناقد مصري لم يقل لي اسمه، وإنه أعجب بالفيلم بشدة وقال له إنه يريد عرض الفيلم في مهرجان الإسماعيلية للأفلام الوثائقية، وتبادلا التلفونات، ثم فوجئ بعدها باتصال من الناقد يعتذر له لأن المهرجان اعتبر عرض الفيلم تطبيعا مع إسرائيل. ثم باغتني عماد برنات سائلاً: "طيب يا عزيزي أنت كاتب سيناريو، بذمتك هل تعتقد أنني قدمت في فيلمي عملا يخدم إسرائيل بأي شكل من الأشكال؟"، ارتبكت وبدأت أشرح له أن الأمر معقد وأن هناك ميثاق شرف يمنع أي تواصل مع الإسرائيليين حرصا على.. فقاطعني بحدة قبل أن يقول لي: "وهل كنت تعتقد أن هناك جهة عربية يمكن أن تتعاون معي لإنتاج عمل كهذا، وهل تعاونت مع غيري لكي تتعاون معي؟"، ثم تركني ومشى مبتعدا عني.

بعدها ونحن نخرج من السينما قالت لي الصديقة الأمريكية: "طبعا ستكتب في الصحف عندكم لكي تطالب بعرض هذا الفيلم الذي يخدم قضيتكم الفلسطينية كما لا يفعل أحد آخر، وبالتأكيد ستقود حملة لكي تطالب الحكومات العربية بدعمه لكي يتم عرضه في كل دول العالم؟"، قلت لها: "طبعا لن أفعل لأنني سأتهم بالتطبيع.. انظري، الأمر معقد جدا ويحتاج إلى شرح طويل". نظرت إليَّ مستغربة وقالت: "هل تريد إقناعي أنك يمكن أن تتجاهل الكتابة عن فيلم كهذا تماما؟"، قلت لها: "لا أدري، عندما أحسم حيرتي سأخبرك".

...

كتبت هذه السطور في عام 2012 وهي جزء من كتابي (التغريبة البلالية) الذي تصدر طبعة إلكترونية جديدة له قريبا بإذن الله، وأتمنى أن تكون هذه السطور محفزة للمزيد من النقاش عن هذه القضية التي يتعامل الكثيرون معها باستسهال خطابي لم يجلب لنا إلا المزيد من الخسائر وخيبات الأمل.   

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.