مطالب "تشرين العراق"... وتدرّج الوعي الاحتجاجي

15 مارس 2020
+ الخط -
منذ اندلاع الاحتجاجات في أكتوبر/تشرين الأول 2019، دعا المحتجون إلى مجموعة من المطالب السياسية بدءًا من "نريد وطناً" وصولاً إلى "إساقط الأحزاب".

إن التحوّل المطلبي في الاحتجاج العراقي هو تدرج للوعي واتساع المعرفة في الحاجة الآنية للوضع السياسي والاقتصادي والدستوري. كانت المطالب التي ظهرت في تظاهرات 2015- 2018 هي مطالب آنية واستهلاكية ناتجة عن الحاجة المجتمعية في الحق الطبيعي؛ مثل الكهرباء وتوفر الخدمات وإيجاد فرص العمل وغيرها.

بيانياً، انسطرت المطالب الاحتجاجية وفق الحاجة اليومية للفرد العراقي. وهي أشبه بمراجعة بنود "العقد الاجتماعي" للدولة بين الشعب والسلطة الهرمية والخدمية في البلاد. فالاحتجاجات انساقت نحو توفير الحاجة مع إمكانية إبقاء الوضع السياسي. ولكن في تشرين الأول 2019 بدأت تتطور المطالب نحو أفق أوسع، وهو دلالة على توسع دائرة الحاجة والاستراتيجية المستقبلية للتحقق.

يمكننا تقسيم الاحتجاج إلى ثلاث دفعات؛ الأولى الاحتجاجات التي امتدت بين أعوام 2010 - 2018، وهي الدفعة الأولى التي كانت تتمحور حول مطلب معين، مثل تخفيض رواتب الدرجات الخاصة، أو توفير الخدمات.

أما الثانية وهي التي انبثقت في الأول من تشرين الثاني 2019. وتسمى أيضا (الموجة الأولى) من الاحتجاجات. كان المطلب يتمحور حول فكرة "إسقاط النظام"! ورغم ضبابية هذا المطلب وخطورته إلا أنه كان وما زال متأثراً بالربيع العربي 2011.


كان هذا المطلب -إسقاط النظام -، هو المطلب الأم لنشأة قائمة احتجاجية تلوح بها الحركة الاحتجاجية في ما بعد. فمنذ تشكيل الموجة الأولى من الاحتجاج لم يكن هنالك وعي كافٍ أو بالأحرى -وقت كافٍ- لتقديم قائمة المطالب. فالأمور جرت مسرعة.. الدعوة إلى التظاهر كانت أشبه بـ"العفوية"؛ ولم تهيّئ لنفسها خطة استراتيجية أو سلّماً مطلبياً.

بعد مواجهة السلطة الحاكمة بشتى أنواع القسوة غير الممكن استخدامها مع شباب عزل، تحولت المطالب في ما بعد إلى عملية أكثر عقلانية في المطلب الاحتجاجي. فالمحتجون عرفوا أن السلطة وأحزابها وقواتها المسلحة لن تستسلم بسهولة. وأن المشوار طويل جداً والدماء ليست رخيصة. فتحول المطلب إلى وسم #نريد_وطن.

كان هذا الشعار أكثر الشعارات إثارة للعاطفة. فتخيل عشرات الآلاف من الشباب ينزلون الى الشارع وحينما يسألهم المراسل التلفزيوني لماذا أنتم هنا؟ يقولون: نريد وطناً!

نعم نريد عراقاً سُرق منذ زمن، نريد بلداً نعيش فيه.. من عاش تلك المرحلة يتذكر ذلك الرجل المسن في البصرة الذي وقف أمام الكاميرا متحدثاً بحرقة: خذوا كل شيء.. خذوا الأموال والنفط واعطونا العراق! كان هذا الشعار أكثر فعالية وتأثيراً على الرقعة الجغرافية ككل.. فحتى الإعلام العربي والعالمي تحدث في برامجه السياسية كثيرا عن هذا المطلب. يتحدثون عن شعب يبحث عن وطن!

بقيّ الوتر العاطفي يدق أبواب التحشيد نحو التجمهر العددي للتظاهرات. فانطلق المحتجون نحو أول المطالب ذات الثقافة القانونية والحقوقية وهو #نازل_آخذ_حقي. يعتبر هذا الوسم هو بوادر تشكيل الورقة الحقوقية للمطالبة بالحقوق التي احتج لفقدانها الشباب. ولحقه في ما بعد #راجع_آخذ_حقي وذلك بالفترة التي ضيقت فيها السلطة على التجمعات الاحتجاجية من حيث منع التجوال والاعتقالات العشوائية.

تحولت قائمة المطالب في ما بعد وخصوصاً بعد تصاعد عمليات المواجهة بين المحتجين والسلطة إلى عملية استقالة الحكومة. وهو المطلب الأكثر تداولا، واتفق (المحتجون - المعتصمون) على استقالة حكومة عادل عبد المهدي واستبدالها بحكومة انتقالية تضمن ما يلي:

- انتخابات مبكرة ونزيهة بإشراف أممي.
- تعديل قانون الانتخابات وتغيير مفوضية الانتخابات بعيدا عن المحاصصة.
- محاسبة قتلة المتظاهرين والفاسدين الذي أثروا من المال العام.

إن هذا التحول في المطلب، له أهمية قصوى في فهم المعادلة السياسية. إذ جاءت هذه المطالب بعد مرور شهر عن الاعتصام المفتوح الذي نفذه المحتجون نهاية تشرين الأول 2019. وقفز الوعي الاحتجاجي نحو ممهدات دستورية وقانونية لتهيئة الأرضية نحو التغيير المنشود، وتحول ديمقراطي -شبه منظم- بعدما أخذ ردحاً طويلا من الضبابية المطلبية.

إن الدعوة إلى الانتخابات وتغيير قانونها، هي دعوة لإبقاء النظام بصورة غير مباشرة. ولكن باستبدال المحركين الأساسيين في القرار فقط. لقد تخلى المحتجون -بعلم أو من دون علم- عن مسألة إسقاط النظام برمته، وهو ما يقصد به دستورياً -إنهاء النظام شكلا وتفصيلا من حيث الجمهورية الاتحادية والعمل بالدستور والنظام البرلماني-.. ربما ضحّى أو تنازل المحتجون عن هذا المطلب الضخم. أو ربما لم تكن الأوضاع سانحة للتفكير في مسألة إسقاط النظام واستبداله.

إن هذه المطالب المطروحة، شكلت جوهرا أساسيا في منطقية التعامل مع المحتجين من قبل السلطة والمجتمع الدولي. إذ رأى الأخير أن هذه المطالب هي ورقة إصلاحية "مهذبة"! تنم عن الوعي وتشخيص الخلل، بل حتى السلطة أجبرت على الاعتراف بالمطالب ومناقشتها وتضمينها ضمن جلسات مجلس النواب العراقي.

إن مطالب الحركة الاحتجاجية التشرينية تتسم بالآنية حسب تصاعد الموقف من قبل السلطة. إذ لم تكن تلك المطالب مدونة قبل الشروع بالاعتصام. بل كانت ولادتها من رحم الصراع والمواجهة التي استمرت أربعة أشهر متواصلة بين المحتجين والحكومة. وتتسم أيضاً بالبيانية الإدراكية المتراكمة. إذ تخلى المحتجون من مطالب الاستهلاك إلى مطالب الإنتاج.

كيف ذلك؟.. تحولت المطالب تدريجياً إلى خيال سياسي خلاب متمنياً إنتاج حكومة بدلاً من مطلب استهلاكي للحياة اليومية من الخدمات وتوفير فرص العمل وغيرها. وهذا بحد ذاته هو قفزة بالنظر نحو المستقبل القريب.

إن تدرج الوعي في الاحتجاج جاء بعد تجربة سريعة ومستمرة منذ سنوات.. فاحتجاجات تشرين هي الابن البكر لكل الحركات الأجتماعية التي ولدت وماتت منذ تصاعد التحرك الديمقراطي في العراق بعد 2003. لذا كان المطلب جاهزا ولكن مشكلة الصياغة والتنفيذ كانت العائق الأصعب.

لم يكن للاحتجاج متبنٍّ حقيقي في قبة الحكومة. فهو ليس يسارياً بحتاً حتى تتبناه الأحزاب الشيوعية واليسارية. ولا تياراً إسلامياً، أو ولائياً، كي تتبناه الأحزاب الإسلامية المؤسسة للحكومات المتعاقبة منذ 2003. بل ظل الاحتجاج حركة اجتماعية تراوح مكانها لحين تشكيل التعريف والهوية.