العثماني بين العربية ورئاسة الحكومة

03 ابريل 2019
+ الخط -
قبل أيام، همس لي صديقي أحمد الجنابي بسر ما، ثم طرح عليَّ عددًا من الأسئلة، وقرر في نهاية الأمر دراسة الموضوع من أوجه شتى. كان مما سألني: ألا ترى أن لسان الإخوة المغاربة فصيح؟ فما بواعث ذلك؟ ولماذا يندر أن يلحن أحدهم في اللغة؟ ثم استدرك: أنا أحدثك عن كلامهم بالعربية الفصحى، أما باللهجة فإني قلما أفهم عنهم، ولا أتطرق لمن آثروا الحديث بالفرنسية على حساب العربية.

وصديقي ليس برجل عادي، إنه خبير لغوي في معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، وله إسهامات قيِّمة في ميدان البحث اللغوي، مما يجعل ملاحظته جديرة بالاهتمام والدراسة. ومع أن الحديث تشعب إلى المفاكهة والطرف الأدبية واللغوية، قلَّبت الأمر في رأسي؛ فإذا بي أتذكر عددًا من الأصدقاء في تونس والجزائر والمغرب، ونادرًا ما يقع أحدهم في سهو أو خطأ لغوي.


وبالأمس، خرج علينا رئيس الوزراء المغربي السابق، عبد الإله بنكيران، يحذر خلفه -رئيس الوزراء المغربي الحالي- سعد الدين العثماني وينصحه؛ يحذره من قبول مشروع قرار تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية، وينصحه برفض القانون وإن كلفه ذلك منصبه. افتخر بنكيران بما أنجزه حزب الاستقلال قبل ثلاثين عامًا، وذلك بإقرار تعريب المواد العلمية، وناشد العثماني -زميله في حزب الاستقلال- بمتابعة نفس المسلك، وعدم التضحية بالضاد مهما كانت التضحيات.

ثلاثون عامًا ساعدت اللسان المغربي على إتقان العربية، وثبتت أقدام الضاد على الأرض المباركة التي عربدت فيها الفرنسية، واكتسبت العربية زخمًا منقطع النظير؛ فأعادت للأذهان الاهتمام المغاربي باللغة، وهب أحفاد ابن خلدون وابن آجروم وصاحب العقد الفريد (ابن عبد ربه)، وصاحب نفح الطيب وغيرهم؛ فأبدعوا في ميدان اللسانيات ولهم فيه جبهة غراء ويد بيضاء.

ثلاثون عامًا قطعها المغاربة في ميدان اللغة بحزم؛ فأبدعوا في المجال اللغوي وأعادوا للضاد بهاءها على ألسنتهم وفي قلوبهم، وهذا يعيدنا لسؤال صديقي أحمد الجنابي: أليس في ذلك ما يغرينا بالتشبث بالعربية؟ ولماذا لا نتخذ من التجربة المغاربية نبراسًا لإعادة الضاد إلى وضعها الأول من الاهتمام والعناية؟ ومتى نستفيد من التجربة المغاربية؟

لم يغب عن الجنابي أن المغرب وقع تحت الحماية الفرنسية 44 عامًا قبل استقلاله في مارس 1956، وأن أحد مظاهر الاستعمار الفكري واللغوي تمثل في نبذ العربية، وتعمُّد الحديث بلغة المستعمر الفرنسي تبعية وصغارا، لكن الجهود الحثيثة لنصرة العربية لم تتوقف، واتخذت من المدارس الأهلية رأس حربة يدفع عن الضاد شبح التلاشي.

لكن الإطار نفسه يحمل قدرًا لا بأس به من التناقض! فإلى اليوم تهيمن الفرنسية على الشارع المغاربي كلغة تواصل، وإلى اليوم تمثل ما يربو على 60% من الدراسة الجامعية؛ فإذا انتقلت من الجامعة إلى المجتمع ترى البون الشاسع بين الواقع والمأمول. تدوزن أنت على حب العربية، وربما تصدر قرارات وقوانين، لكن سوق العمل يفرض عليك التماهي معه، وإن لم ترطن بالفرنسية لن تجد لك موطئ قدم في الوظائف المرموقة، وسيتقادم بك الحال وأنت في نهاية الركب!

إن الأصدقاء المغاربة الذين سمعناهم يتحدثون العربية بطلاقة لا يختلفون عن أقرانهم، ويواجهون نفس الصعوبات المزعومة والملصقة بالعربية، لكنهم يملكون قدرًا كبيرًا من الثقة بالنفس والاعتزاز بالعربية، ما أتاح لهم التعبير باللغة العربية دون الحاجة إلى حشر كلمات ومصطلحات فرنسية في ثنايا أحاديثهم، وبمرور الوقت نضجت الملكة العربية تحريرًا وتعبيرًا.

تعد خطوة تعريب المواد العربية واحدة من المكتسبات اللغوية، ويتعين على الحكومات تعزيز مكانة العربية، وتوفير فرص العمل بالتساوي ما أمكنت الفرصة، وعدم الركون إلى نصرة العربية على الورق -عبر سن القوانين- وهجرانها في الواقع المعيش، ونرجو من العثماني ألا ترجع العربية إلى الخلف، وألا يكون "كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا".