يوم حكت ماما عن خالي... المفقود
خالي قاسم أو أبو نزار كما يُعرف في العائلة. سوري الجنسية، لبناني الولادة والإقامة. كان واحداً ممن حملوا السلاح في الحرب الأهلية عام 1975. لم ألتق به... أنا التي مذ ولدت وكبرت على سمعة خالها المفقود "البطولية". صحيح أنّ سيرة خالي أبو نزار لطالما ردّدت في الاجتماعات العائلية، القليلة ربما، مع أولاده وزوجته، أو حتى وسط أسرتنا على لسان بابا وماما، إلا أنّها اقتصرت على صفاته وشيء ما من بطولاته، وكثير من مبادئه وارتباطه بالقضايا الكبرى، والوطن... وحتى فلسطين... والعائلة. لكنها حتماً لم تكن عن قصته وتفاصيلها... كيف اختفى؟ متى فُقد؟ لماذا؟ كيف عدتم بعدما "تهجّرتم" ولم يعد؟
ببساطة كانت غالباً ما تُغلق سيرة خالي تماماً، إذا ما تجرّأ أحد على طرح هذه الأسئلة (البديهية؟).
لم تحكِ ماما، ولا بابا، لنا من قبل قصصاً عن الحرب الأهلية. كان مصير هذا العنوان أقرب إلى التجاهل وسيرة تطوى متى فتحت. وإذا ما قيل فيه كلام فيكون حديثاً ممزوجاً عادة بصمت طويل ودموع لا تنتهي، محوره الأبرز استعادة شريط الذكريات عن الأهل والأصدقاء، من دون أن تسقط منه مشاهد قاسية، عن موت جارٍ هنا، وتعذيب أحدهم هناك. ولذلك ربما كان إنهاء هذا الحديث وتجاوز تلك السيرة خياراً حتمياً بديلاً عن وجع القلب واسترجاع الهم. لكن ماما حكت هذه المرة، تقصّدت الإجابة عن أسئلة صبيتين جاءتا إلى المنزل وفق الموعد، محملتين بملفات سميكة، وأسئلة كثيرة، كل سؤال منها كُتب على ورقة كاملة ينتظر الجواب.
تقول إحداهما إنّ بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في لبنان تعمل على جمع بيانات ما قبل الاختفاء، وهدفها من ذلك حفظ هذه البيانات حتى تتمكن من استخدامها، في وقت لاحق، آلية وطنية تعمل على كشف مصير الأشخاص المفقودين.
في أحد المنشورات التعريفية التي سلمتها مندوبة الصليب الأحمر إلى ماما، يرد أن بيانات ما قبل الاختفاء هي كل ما يساعد في التعرّف على الأشخاص المفقودين المقدّمة من قبل الأشخاص الذين يعرفون الشخص المفقود جيدّاً و/ أو الأشخاص الذين كانوا آخر من شاهده و/ أو المطلعين على ظروف اختفائه.
يطاول الاستبيان معلومات مفصلة عن الملابس، والصفات البدنية، والمعلومات الطبية، والمعلومات المتعلقة بالأسنان. نعم الأسنان، في حال اكتشاف جثث المفقودين أو رفاتهم، فضلاً عن ظروف الاختفاء.
تقول ماما إنّ يوم السادس والعشرين من تموز 1976 يوم لا يمحى من ذاكرتها. يمثّل هذا التاريخ يوم تهجير عائلة ماما وجيرانهم عائلة بابا، وكانا آنذاك خطيبين يجهزان لحفل الزفاف من "برج حمود" في بيروت، بعد "سقوط المنطقة" وسط الاشتباك "المسلم المسيحي" كما يرد في المصطلحات التي يرددانها عند تذكر الأحداث. تولّت ماما سرد أحداث هذا اليوم للمندوبتين، بينما كان بابا، وهو صديق أخوالي الأربعة، في يوم عمل عادي. تذكر ماما جيداً وهي التي لم تحك لنا من قبل شيئاً عن هذه التفاصيل، آخر لقاء مع أخيها، بقميصه الرمادي، وقد رفض الخروج من المنطقة عندما قرر الجميع آنذاك أن يسافر إلى سورية هرباً من الحرب. كان أقصى ما يخشاه أن تتعرض شقيقته الوحيدة، أي ماما، وجدتي وزوجته، لاغتصاب في حال دخول "المسلحين" إلى بيوتهم، وهو الشاهد على ما يقوم به هؤلاء، خصوصاً أنه كان في ساحات القتال المقابلة، وتولّى توزيع السلاح على من يواجهونهم. ولذلك سلّم خالي ماما سلاحاً كي تدافع عن نفسها في حال حلّت لحظة كهذه، أو تجده آخر وسيلة أمامها في حال اختارت إنهاء حياتها. لكن مع دخول المسلحين إلى المنطقة، كما تروي ماما، كان المصير أن يغادر الجميع تحت رصاص القنص إلى سورية، التي كان الطريق إليها أكثر أماناً من الوصول إلى "بيروت الغربية".
رفض خالي الخروج من المنطقة، واختار إرسال عائلته وحتى زوجته الحامل وأولاده الثلاثة إلى سورية. لا أدري ما إن كان قد وعدهم باللحاق بهم، أو أنّه كان يدري أنّ مصيراً كهذا هو أحد الاحتمالات التي قد يواجهها. تساءلت بينما أحدّق في ماما وهي تحكي عن تلك اللحظات، ترى ماذا كان آخر ما قاله لأفراد عائلته؟ هل تذكر ماما آخر كلماته؟ هل تشتاق لآخر عناق مع شقيقها الأكبر الذي لطالما دلل أخته الوحيدة كما تتباهى وهي تحكي عنه مثل صبية صغيرة؟ هل ودّعته أصلاً؟
ترد هذه الأسئلة في ذهني، وأجد أنه من الصعب أن أطرحها على ماما، لكن الأسئلة الأصعب عند استعادة قصته تبقى حول الخطوط الكبرى التي رسمت خيارات خالي، بدءاً من حمل السلاح وانتهاء بما لم تنتهِ عليه قصته. لا أحكم على خالي وخياراته، لكنني لم أتمالك نفسي عن التساؤل حولها في السابق بيني وبين ذاتي. هل كانت أصلاً خيارات؟ غير أنّ استعادة القصة وفتح سيرته من جديد شكّلا فرصة لي لأتجرّأ وأطرحها على ماما التي فوجئت بأنها هي الأخرى لا تملك إجابة محتمة عنها، سوى بعض تفسيرات استشفتها من يومياته ومبادئه. لا لم يكن أبو نزار ملتزماً دينياً ومع ذلك انساق وراء وصف القتال "مسلم مسيحي"، ووجد نفسه منخرطاً فيه، لكنه كان يهتم بالقضايا الكبرى، كما تقول ماما، مثل قضية وطنه لبنان... وفلسطين. وتروي أنّه سأل زوجته الجنوبية حين إقامة زفاف أختها، كيف تقيمون الأفراح وعائلة في جنوب لبنان المحتل آنذاك كانت قد قضت دهساً على يد الاحتلال الإسرائيلي. لكنّها تسلّم حتماً بأنّ خالي حمل السلاح لغاية الدفاع عن حياة عائلته وأحبابه، وعن مبدأ ضرورة قيام وطن بلا احتلال، وعيش حياة بلا عدوان، وعن كثير من مبادئ الشجاعة الكرامة واحتقار الخيانة. تكمل ماما كلامها، بينما تدور في رأسي أسئلة عدة، هي عينة من تلك الأسئلة الكبرى التي تتدفق مرة واحدة على رأس الواحد منا من دون توقف، لماذا تندلع الحروب؟ لماذا يحمل الإنسان السلاح؟ هل يختار ذلك فعلاً أم يفرض عليه؟ من هو العدو في حرب كهذه؟ هل يقوم الإنسان برد فعل أمام جرائم تحدث له أو لأحد أحبابه؟ هل تتخلى عن بيتك؟ تتهجّر من ذكرياتك؟ هل فكر من شارك في الحرب الأهلية كيف ومتى ستنتهي؟ أين عائلة خالي الآن في قاموسه؟ ألم تخسره؟ أم أنّه فعلاً بطل فدى عائلته؟ أم ضحية؟ نعم، هي تلك الأسئلة التي تسكتها فجأة أيضاً، وقد حدث لي ذلك مع لحظة صمتت فيها ماما ربما لإدراكها أنّها لا تملك جواباً أو ربما لأنّها كانت في تلك اللحظة مجرّد أخت تشتاق أخاها... الغائب.
عاد المهجرون ولم يعد خالي المفقود. أبلغوا عن فقده لدى مركز للصليب الأحمر آنذاك، ولعل زوجته لا تزال تحتفظ بورقة تثبت ذلك الإبلاغ الثابت الوحيد ربما. تغيب تفاصيل دقيقة عن مرحلة ما بعد التهجير والعودة، تماماً كما تتداخل وتتعدد الروايات التي سمعتها ماما وعائلته عنه. منهم من ذكر لهم أنه كان مصاباً ووصل إلى حدود سورية. ومنهم من ذكر أنه أدرج ضمن صفقة تبادل بين الأحزاب المتحاربة، وقد يكون ضمن أولئك المغيبين الكثر في منازل أموات سجون النظام السوري. وكثيرة هي الروايات والاحتمالات عن مصيره، فيما الحقيقة مفقودة هي الأخرى.
لماذا حكت ماما هذه المرة عن شقيقها المفقود؟ وتحملت نكء جرح باقٍ لم يندمل مع مرور الوقت كما يدعي أصحاب هذه النظرية. لا أدري فعلاً.
لن يعود خالي، ولا تأمل ماما ذلك، لكنها تقول لمندوبة الصليب الأحمر إنها تريد الحقيقة. لعل ماما تسعى إلى نهاية لهذه القصة التي لا تزال تعرض كفيلم في ذاكرتها من دون شارة ختام. ولا تخشى أن تكون النهاية حزينة لأنها تعتقد أنّ خبراً يحمل كلمة الموت أهون من غياب الفقد. هل يختلف فعلاً الفقد عن الموت؟ وهل نصل إلى الاكتفاء بلحظة وداع عزيز ولو كان ميتاً؟ أنظر إلى وجه ماما من دون أن أشبع من تعابيره وقد ارتجف صوتها وهي تجيب عن هذا السؤال الأخير. لم تسعفني الكلمات أمام غصاتها ووجدت أي كلام سأقوله سخيفاً. ولم أتمالك نفسي عن الحرقة لتمسّكها بـ"أمل" الوصول إلى معرفة الحقيقة، لكن عزائي الوحيد أنّها سعت يوماً وراءها.