اعترافات لوالدي في يوم ميلاده

15 مارس 2017
+ الخط -
فكرتُ كثيراً واحترت كيف أهنئك بميلادك، وقد باتت التهاني الافتراضية على مواقع التواصل هي الوسيلة الأمثل لكل بعيد مغترب، وللقريب أحياناً، هل أختار صورة لزهرة أو لقالب حلوى مع شموع مرفقة بتهنئة مكتوبة، وأنا أعلم أنك لا تفضّل أياُ منهما، أم أنشر صورة لنا سوياً، وما أكثرها؟!.

فكرت أن أكشف عن وثائق تخصك، على غرار "ويكيليكس" مثلاً، فهي الطريقة التي اخترتها بنفسك لمعايدتي أنا وأخوتي العام الفائت، نشرت صوراً غريبة، مضحكة وطريفة بطريقة فضائحية من طفولة بدأت ملامحها تتحرك نحو طيات النسيان وأنا التي تعاني من ضيق سعة وحجم الذاكرة، ومنها تلك النادرة التي استطعت العثور عليها بعد أن نالت نيران مخيم اليرموك من بقايا الصور، ومن زوايا البيت المتروك.

 نشرت لنا أحياناً رسائل قديمة تخص عائلتنا الصغيرة، حينها، كانت أصابعنا تعرف شكلاً واحداً لمعايدات الأم ولرسائل الأب المغترب، وأرفقت كل هذا بكلمات فاجأتنا بمدى معرفتك بنا، فحرّكت مشاعر لطيفة، حتى وإن أخجلت ذاك الطفل غير الناضج داخلنا، ولو قليلاً.

دعني أعترف أنني أدركت بعدها أن سنوات الغربة والغياب قد أثرت عليّ وحدي، هو ليس جفاءً، بقدر ما أن البعد ينسيك أحياناً تفاصيل من كانوا حولك سابقاً.

بالنتيجة، طريقة "ويكيليكس" لن تنفع معك، فالوضوح والصراحة هما ما ميزاك دائماً، أضف إلى هذا أنني لم أستطع العثور على أي "وثيقة" تجعلني أقلدك في التهاني.

قررت بالتالي أن أقدم اعترافاً؛ ليس اعترافاً بأخطاء ارتكبتها بحقك، فهذا ما يفعله الأبناء عادة ويسامحهم الآباء. وليس اعترافاً بأنك لطالما كنت قدوتي في الحياة، فكل فتاة بأبيها معجبة بطبيعة الحال، ولن أعترف بأنني أخشى عليك من مفاجآت القدر يومياً، فربما كنت تعرف ذلك، فأنا التي تتحين أية فرصة لتصرخ عليك، عساك تتبع نظاماً غذائياً صحياً أو تمارس الرياضة.

لن أعترف أنني كنت السبب ببعض ما تعاني منه حالياً، فليس ذنبي أنني لم أتعلم قيادة الدراجة الهوائية في نهاية العشرينيات، رغم أنك وقعت على كتفك المصاب حتى اليوم، كنتيجة لمحاولات التعليم الفاشلة، كما أنني لست من يتحمل مسؤولية الحقن المغشوشة، التي أصررت عليك أن تأخذها لتتحسن ركبتاك قليلاً، فكانت النتيجة عكسية!

لن أعترف بأنني حملت لك مشاعر ضغينة وكراهية أحياناً، حين أحسست أنك تحب أمي أكثر مني في سنوات سابقة وكم حسدتها!، وحين حاولت منع زواجي، لأكتشف لاحقاً لم فعلت ذلك حين سرقتني منه خلال رقصتنا الأولى، وكم أفرح اليوم حين أتذكر ذلك.

لن أعترف لك بإحساسي بالذنب، كوني أختار التعبير عن حبي بطريقة تختلف عن الآخرين، فأنا لست إنسانةً عاطفيةً تختار كلمات مليئة بالحب، وهي التي تخرج مني بصعوبة بالغة.

لكن إليك التالي، ما عليك أن تعرفه هو أنني التقيت بأشخاص كان لهم مآخذ عليك، بعد أن دخلت إلى عالم الصحافة. وهو ذات عالمك الذي لطالما رفضتَ أن أكون جزءاً منه خوفاً وتوجساً وقلقاً مما قد يفعله بفتاتك. لكن يا أبي دعني أعترف أنني لم أدافع عنك أحياناً، حين كانوا يتحدثون عن عصبيتك أو عن عملك أو عن بعض توجهاتك، فالمعادلة أصبحت مؤسفة في عالم الصحافة اليوم، فإما أن تكون من هذا المحور أو ذاك، وعليه يجب أن تختار زملاءك وأصدقاءك. لكن عليك أن تعرف أنني كنت أفرح في سري، فأنا ابنة هذا الرجل وليذهب العالم إلى الجحيم، معادلة لم أتردد في الإعلان عنها دائماً. 

عليك أن تعرف أن كل ما فعلته في سنوات سابقة لا يعني أنك قمت بتشتيت العائلة المكونة من ستة أفراد بمن فيهم أنت وأمي، كما قال كثر لك ولي، كل فرد فينا يجلس في بقعة جغرافية ما، لكننا جميعاً ندرك أنك كنت تحاول إنقاذنا وتدفعنا نحو قدر جديد علّه يكون أفضل من قدرك وقدر أمك وأبيك. 

دعني أعترف أنه ومع كوننا لاجئين فلسطينيين، إلا أننا نشعر بأن هذا امتياز لا عيب، وبأننا لم ندخل حتى الآن في دوامة الطائفية والعنصرية التي أصابت كثراً بدائها. لم أنس بعد، حين صرخت علي مرة قبل سنوات، إذ أخطأت في استخدام مصطلح اعتبرتَ أنه طائفي.

عليك أن تعلم أنني وإخوتي سنخوض معترك الحياة، هذه الحياة وكل مافيها من شوائب لن تكسرنا يوماً، وكم آمل أن نبقى متيقظين لمحاسبة أنفسنا أولاً، ولكي لا ننسى أنك كنت فيها الأجمل. 

 
أبي... كل عام وأنت أفضل

 

 

 

C35608B0-09E2-4F09-84AA-CF9E2A45837C
C35608B0-09E2-4F09-84AA-CF9E2A45837C
فرح الزمان شوقي
فرح الزمان شوقي

مدونات أخرى