مهمة سرية لاختبار صواريخ روسية

04 ديسمبر 2016
+ الخط -
بقدرة قادر تحوّلت من طالب يستعد لتسجيل رسالة الدكتوراه في كلية الآداب بدمشق إلى مجنّد في كلية الدفاع الجوي بحمص! خمسة أشهر من التدريب كانت كافية لأتخرّج بنجمة على كتفي، ضابطاً في الدفاع الجوي، باختصاص صيانة صواريخ فولغا الروسية sam-2 المضادة للطيران واختبارها.

والشيء الوحيد الذي تعلمته كان عبارة: سماؤنا لنا حرام على غيرنا! حينها كان الطيران الإسرائيلي وحده من يشاركنا بها، أما اليوم فالأمر بات مختلفاً بعض الشيء. في نهاية الدورة التدريبية تم فرزي إلى (السين)، منطقة منتزعة من الربع الخالي في بلاد الشام. وصلت بعد بحث استمر يومين كاملين.

وعلى باب قطعتي العسكرية التي سأقضي فيها سنة ونصف السنة، استقبلني عسكري بضحكة بلهاء، قائلاً: أهلاً بك في السين، هنا لا طير يطير ولا وحش يسير! لا أعلم ما المفرح في هذه العبارة، ولكن الفتى كان صادقاً على كل حال.

في اليوم الأول، أشار قائد الكتيبة إلى عربة في بطن وادٍ، قائلاً: ملازم محمد، تلك هي العربة التي نختبر بها الصواريخ، وعملك سيكون فيها.

عندما نزلت إلى العربة ظننت نفسي قد تهت الطريق ودخلت بالخطأ إلى منصة إطلاق الأقمار الاصطناعية في كازاخستان.

كنت أمام عربة عسكرية مزودة بحجرة في الخلف. جدران الحجرة مملوءة بالأزرار والمؤشرات، وكلها مكتوب عليها عبارات روسية.

- ما هذا؟ سألت قائد الكتيبة.

فأجاب: هذه عربة اختبار الصواريخ، هي مصممة لاختبار الصواريخ والتأكد من جاهزيتها وقدرتها على التصدي لطيران العدو، عليك أن تعرف مهمة كل زر، كل مقبض، كل مؤشر!

يا سلام..! أية نقلة تاريخية هذه، من روايات تولستوي ودوستوفيسكي ودراسات ميخائيل باختين إلى الصواريخ.

في اليوم الأول، طلبت من قائد الكتيبة بعض الكحول الطبي لأنظف العربة التي أكلتها الرمال من الداخل، فقال: لا يوجد كحول، لقد شربه الروس.

- شربه الروس؟ كيف؟

- طوال سنوات الثمانينيات، كان الروس هم من يختبر هذه الصواريخ. وكانوا يشربون الكحول الطبي لعدم وجود الفودكا، دبر رأسك ونظفها بالبنزين!

لم تعجبني قصة البنزين، وخشيت في جنون الصحراء أن أشربه أنا الآخر.

كانت لدي خطة أخرى... غسلت الحجرة جيداً بالماء، وضعت فيها فراشاً ورحت أقضي يومي فيها، فيما يتولى المجندون حماية ضابطهم/أنا وإبلاغه بأية غزوة مفاجئة من قبل ضابط ما!

طوال أشهر، قرأت في الحجرة عشرات الروايات والكتب. كنت أبقى في الحجرة إلى ما بعد نهاية أوقات الدوام بساعات مسبباً الحرج للضباط الآخرين، الذين كانوا يهربون مبكراً.

ومع الصفحات الأخيرة من "مئة عام من العزلة"، حلت الكارثة. أرسل قائد الكتيبة في طلبي وأخبرني أننا سننطلق غداً إلى موقع عسكري "سري" لاختبار مجموعة من صواريخ الفولغا الروسية! اختبار! أنا!

في اليوم التالي، بحثنا عن سيارة قادرة على التحرّك من بين سيارات الكتيبة البالغ عددها 80 آلية. وبعد طول بحث، وجدنا واحدة، قطرنا بها سيارة الاختبارات التي كانت غير قادرة على السير منذ عشرين سنة على الأقل، وانطلقنا!

بالطبع كنت قد نزلت ليلاً، وأخرجت منها الفراش والروايات وعلب الزيت والزعتر والملح والشاي والمتة والسكر! رحنا نتوغل في البادية أكثر فأكثر. سرعان ما غدت الرمال تصبح أنعم فأنعم حتى استحالت غباراً، أكل عيوننا آذاننا أنوفنا أفواهنا...

وبعد طول توغل، وصلنا إلى الموقع العسكري "السري". كنت طوال الطريق أتخيل موقعاً شبيهاً بمواقع لعبة IGI التي كنت مغرماً بها، ولكن الواقع كان شيئاً آخر.

خراب على مد البصر. وبقايا أجساد بشرية هزيل تتحرك بالملابس العسكرية، وتعيش في غرف بنيت من الصفيح وبقايا أغلفة الصواريخ الخارجية!

نظر قائد الكتيبة إليّ، وقال: هل صدقت الآن أن كتيبتنا هي "جنة السين"!

جنة السين التي يقصدها هي ذاتها التي لا طير يطير فيها ولا وحش يسير، أما هنا فشيء آخر.

ثلاث ساعات احتاج الصاروخ الأول ليكون موصولاً بالعربة وجاهزاً للاختبار. وصلت الكهرباء للعربة وأضاءت المؤشرات كلها، وبدأت الأصوات تخرج من كل مكان!

وقفت كالأطرش في الزفة. وبعد دقائق، رحت أمثّل أنني اختبر، أتنقل بثقة بين لوحة وأخرى، أرفع بعض الأزرار وأخفض أخرى، أدير بعضها إلى اليمين دورتين، بعضها الآخر إلى اليسار دورة واحدة، أنظر في ذلك المؤشر وأعيد رسم ذاك،...

كان أمامي المئات من الخيارات، فالأزرار لا تنتهي!

قائد الكتيبة هو الآخر كان يفعل أمراً مشابهاً، ولكن لابد أنه كان يعرف ماذا يفعل، بعكسي أنا تماماً.

بعد نصف ساعة، صرخ قائلاً: ملازم محمد، ما هو وضع الصاروخ؟ أجبت بثقة: جاهز سيدي، الصاروخ جاهز، وضعه ممتاز متل الليرة! كانت المرحومة حينها بوضع ممتاز قبل أن تفقد 90% من قيمتها لاحقاً.

وبعد كل صاروخ، كان عليّ أن أملأ عدة صفحات من البيانات والقيم التي تؤكّد جاهزية الصاروخ، لم أجد كبير معاناة، إذ كان يكفي أن أعود بضع صفحات إلى الخلف لأنقل منها القيم ذاتها!

وهكذا اختبرتُ سبعة صواريخ بكل جدارة، جعلتْ قائد الكتيبة يصرخ بفخر أمام ضباط الموقع السري، قائلاً: تصوروا أن هذا النمر كان يدفن نفسه في الجامعة بين الكتب والعلاك المصدي! في حين اكتفوا هم بالنظر إليّ بتحسر وشفقة.

انتهينا وعدنا إلى جنتنا، وعادت حجرة الاختبارات سيرتها الأولى؛ مكاناً لقراءة الروايات وشرب الشاي والمتة!

وبينما كنت أرمي سجلات الاختبارات في إحدى الزوايا، لفت نظري أن قائد الكتيبة لم يسجل قيم الاختبارات التي حصل عليها من فحص الصواريخ السبعة، فحملت السجلات وذهبت إليه، وبعدما عرضت له الأمر قال بكل هدوء: بسيطة، ارجع بعض الصفحات إلى الخلف، وانقل القيم نفسها!
- عفواً سيدي، لماذا لا نضع قيم الاختبارات؟
- أية قيم؟
- قيم الاختبارات التي حصلت عليها أنت بنتيجة الفحص.
- محمد... أنت أهبل أم تتصنع الهبل؟
- لماذا سيدي؟
- هل صدقت قصة الاختبارات؟ هل صدقت أنني أعرف ما الذي تعنيه كل هذه الأزرار؟ يا محمد لقد استغرقنا تجهيز الصاروخ ثلاث ساعات، يكون فيها الطيار الإسرائيلي قد انطلق من تل أبيب وقصف دمشق ثم أخذ جولة في سورية وصولاً إلى الحدود التركية، ثم عاد فهبط في المطار، وذهب إلى بيته، وقبل زوجته، وتناول الغداء، وشرب الشاي، واستسلم لقيلولته، فيما نحن لم ننته بعد، لذلك فإن الاحتفاظ بحق الرد أسرع وأكثر جدوى!

صدقني منذ رحل الخبراء الروس الذين شربوا كحولنا الطبي، ونحن ننقل قيم اختباراتهم دون أن نفهم ما تعنيه! اذهب وأكمل قراءة رواياتك التي تظن أن لا أحد سواك يعرف بأمرها... قال اختبارات قال!