أبو محمود حبيب الأسد وداعش والثوار

11 ديسمبر 2016
+ الخط -

"اللهم أحقّ الحقّ"، كانت العبارة الوحيدة التي يُعبّر بها أبو محمود عن موقفه مما يحصل في البلاد. هذه العبارة المواربة عُرف أصحابها لاحقاً بـ "الرماديين". وهؤلاء وحدهم من سيخرج منتصراً!

ذات ليلة اقتحم اجتماعاً للثوار، وألقى فيهم خطاباً نارياً عن ضرورة المقاومة وصون العرض والشرف والدفاع عن الأرض والثورة.

لم يصدّق الثوار حميّته، ولكنه سرعان ما أوضح مقصده: لا بد من شراء السلاح لمقاومة القتلة، فقد مرت شهور طويلة على المظاهرات السلمية التي لن توصلنا إلى شيء.

كان الجميع يعرف أنه لابد من شراء السلاح، ولكن من أين؟

كان ينتظر هذا السؤال مطولاً، تنحنح وقال: لدي صديق في الساحل، ضابط جيش، وهو مستعد لتزويدنا بالسلاح!

- هل هو مع الثورة؟

- لا، هو ابن حرام، مع جيبه، سيبيعنا السلاح، وسنقتلهم به!

بسريّة كبيرة تمت حملة جمع تبرعات لشراء السلاح، كانت السرية تشمل الرجال فقط، في حين كانت نساء البلدة كلها تعرف كل قرش من أي جيب خرج!

وبالفعل، ما هي إلا أيام قليلة حتى عاد أبو محمود بسيارته وفيها بضع بنادق آلية، وعدد من صناديق الرصاص، كتب عليها جميعاً: من مخصصات الجيش العربي السوري.

هكذا كانت البداية... والثورة التي ظنّ البعض أنها لن تطول إلا أسابيع قليلة طالت لسنوات. في الفترة الأولى استمرّ، بالتعامل مع صديقه الضابط، الذي راح يبيع كميات أكثر نظراً لأن الرقابة باتت أخف، إذ كان يمكنه أن يبيع 50 صندوق رصاص دفعة واحدة، ويشطبها بجرّة قلم من مستودعه تحت بند: استُعملت في مكافحة الإرهابيين.

في حين يستلم هو ثمنها من أبي محمود الذي كان يبيعها للإرهابيين أنفسهم!

نسيت إخباركم، إن الخطبة العصماء التي ألقاها أبو محمود عن الشرف والعرض والأرض، لم تمنعه من ربح ما قيمته 20% من ثمن السلاح لجيبه الخاص، والآلاف العشرة التي دفعها أمام الثوار دعماً منه للثورة، كسب عوضاً عنها 100 ألف ليرة منذ الصفقة الأولى.

اشترى أبو محمود من ضباط الجيش العقائدي بنادق روسية، ورشاشات بي كي سي، وقطع تبديل، ومئات آلاف الطلقات، وعشرات المناظير. ومع تدهور قيمة العملة المحلية، حوّل أبو محمود التعامل إلى الدولار، فهو "أضمن لحقوق الجميع، والله حرّم الظلم على نفسه"!

ذات صفقة، اتصل الضابط به، تبادلا السلام والاطمئنان على بعضهما وعائلتيهما. ثم لعنا حال البلد وسألا الله أن يحقّ الحق. ثم قدّم الضابط عرضه: 50 قذيفة  عيار 80 ميليمتراً، روسية الصنع في التابوت. "في التابوت" عبارة يعرفها أبناء الكار، وتعني أن البضاعة في صندوقها الذي خرجت فيه من المصنع الروسي. ولم تمسّ!

السعر: 40 ألف دولار فقط لا غير.

خلال دقائق قليلة، اتصل بأحد قادة الفصائل وعرض عليه البضاعة، السعر: 50 ألفاً، والبضاعة مكفولة.

وما هي إلا سويعات حتى تمّت الصفقة، وعاد أبو محمود إلى بيته وفي جيبه 10 آلاف دولار. "في الحركة بركة، والله يبارك في التجارة"، كما يقول.

بعد يومين راق الأمر لأبي محمود، فاتصل بصديقه الضابط ليرتب صفقة أخرى، ولكن هذه المرة أجابت زوجته باكية، علم منها أن زوجها قُتِل في هجوم بقذائف هاون عيار 80 ميليمتراً شنّه الإرهابيون على ثكنته!

أيام قليلة ونعى إعلام النظام الضابط البطل، الذي نال رتبة شرف. وحصل أولاده عندما زارهم المحافظ على ساعة حائط، وعدد من الشراشف البيضاء من إنتاج مؤسسة الإسكان العسكري.

لم تنتهِ بموت الضابط مسيرة أبي محمود الاقتصادية، "فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه".

سرعان ما تفرّق الثوار إلى فصائل وكتائب، تتفاوت فيما بينها في الأسلحة المتدفقة إليها. وغالباً كان المقاتلون الفاعلون من الصامتين المنتوفين. في حين كان من يجيدون التصوير والحرب الإعلامية على "فيسبوك"، يحصلون على النصيب الأكبر. هؤلاء كانوا يحصلون على أسلحة لا يستخدمونها. كان المقاتل منهم يبيع طلقاته لأبي محمود، أو بندقيته، فيشتري منهم ثم يعود ليبيعها مجدداً للفصائل الفقيرة.

مهما كانت الصفقة صغيرة فأبو محمود يتمّها، حتى لو كانت خمس طلقات سرقها طفل من بندقية أبيه، "فالمُخجِّل على النار".

ولأن قلبه كبير راح يبيع بالدين، أو على الموسم. و"على الموسم" تعني أن السداد يكون بعد توفيق الله بالسيطرة على حاجز ما، يمكّن الفصيل المستدين من الحصول على بعض الغنائم التي قد يكفي ثمنها لتسديد الديون. من المهم أن لا تتوقف التجارة، حتى لو لم يكن معك مال.
 

مع الدعم الخارجي، تطوّر أبو محمود أكثر. بات يتاجر بصواريخ "غراد"، والمدافع المضادة للطيران من عيار 12.7 و 14.5 و 23 ملم، والصواريخ المضادة للدبابات والمناظير الليلية وأجهزة تحديد المواقع، وصواريخ الطائرات وبراميل المروحيات التي قُصف بها الناس ولم تنفجر!

ومع تشكّل الفصائل الكبرى، تطوّر أكثر وبات يتاجر بعربات الـ "ب م ب" والدبابات والمدافع الميدانية، التي كان يتم اغتنامها من معسكرات الجيش الكبرى. ويمكنه أن يصيبك بالصداع وهو يحدثك عن أنواع الدبابات وعربات "ب م ب" ومواصفات كل منها، وأيها تمت إعادة تأهليها وأيها جديدة، أو قديمة ولا تصلح إلا لتنفيذ عملية استشهادية!

بعد فترة نظّم أبو محمود عمله أكثر، أنشأ غرفة على تطبيق "واتساب" ضمّت أقرانه من مناطق أخرى، يعرض كل منهم بضاعته، والسعر، والمواصفات مشفوعة بصور توثيقية. وسرعان ما باتت الغرفة الافتراضية بورصة معتمدة، تحدد أسعار الأسلحة والذخائر وتتحكم بالسوق كلها.

 

يتحدث البعض عن أن أبا محمود لم يفقد أصدقاءه في جيش النظام كلهم؛ إذ كان وسيطاً أكثر من مرة بين ضباط النظام وقوات الثوار. يشتري أبو محمود، بموجب الوساطة الحاجز كاملاً بعساكره وذخيرته، في حين يستلم الضباط الثمن ويفرون في جنح الظلام ليسيطر الثوار على المعسكر ويقتلوا من فيه ويغتنموا ما يجدونه من ذخائر رُتّبت بعناية في انتظارهم.

عندما تطوّرت الثورة إلى حروب بين الفصائل كان أبو محمود الخيار الأفضل لكل أطراف النزاع. ذات مرة اشترى مائة ألف رصاصة، وعندما استغرب أقرانه شراء الرصاص الذي لم يعد مستعملاً في المعارك كما قبل، إذ باتت المعارك تعتمد أكثر على القصف البعيد، قال لهم: لا عليكم، اشتريتها بسعر التراب وسيأتيها يوم. لا بد أن يذبحوا بعضهم!

أشهر قليلة، ونشبت الحرب بين فصيلين كبيرين، احتاج كل منهما للرصاص ليطلق على الآخر، وكان أبو محمود لها. باع الطرفين بسعر مضاعف. ونفدت الكمية كلها. وبقي مصرّاً على موقفه: "اللهم أحقّ الحق، واحقن دماء المسلمين"!

 

مع سيطرة تنظيم "داعش" على الرقة، أعلن أبو محمود أمام الناس غضبه الشديد لهذه التفرقة والانقسام، ولكنه كان يدرك جيداً أن سوقاً جديدة فُتحت أمامه، سوق يمتلك زبائنها الكثير من المال نظراً لما يمتلكه التنظيم من ثروات نفطية في أراضيه.

أخيراً رفع نسبة الـ 20% التي حافظ عليها لسنوات. بات يربح 100%. فعناصر التنظيم لا يسألون عن السعر ولا يساومون، يدفعون نقداً.

اشترى أبو محمود عربات هامر من العراق وباعها في سورية. كما باع عناصر التنظيم مدافع من جميع القياسات، وصواريخ محمولة على الكتف، ودبابات وعربات ناقلة، وأسرى من ضباط النظام، وصحافي أجنبي، وقذائف. بالطبع، بكى بعد أيام على قتلاها من أبناء الجيش الحر الذين باعوها. ولعن الحرب وأولاد الحرام وسأل الله أن يحقّ الحق ويحفظ دماء المسلمين.

 

أمر واحد فقط ما زال في حسرته: طائرة!

منذ أيام وجدته ينظر إلى السماء مراقباً طائرة توبوليف الروسية وهي تذرع السماء جيئة وذهاباً.

وقفتُ بجانبه وحدثته عن هذه الطائرة وميزاتها، فقال لي: هكذا طائرة كم سعرها؟ لم أتمالك نفسي من الضحك، المجنون يفكر بثمنها! قلت: هل ستشتريها؟ هذه للروس.


قال: وهل تظنّ أن الجيش الروسي أفضل حالاً من جيشنا العقائدي أبي شحّاطة؟ والله إذا عرضتُ عليهم شراء كلاسينهم الداخلية لتسابقوا في خلعها!