هل لدينا فعلًا خيار؟

02 اغسطس 2024
+ الخط -

لم ننمْ أمس، ولا أمس الأوّل. تابعنا دقيقةً بدقيقةٍ انتشالَ الضحايا من تحت ركام المبنى السكني الذي قصفته إسرائيل في ضاحية بيروت الجنوبيّة. تعبٌ هائلٌ يحطّ على قلوبنا كطائرٍ ضخمٍ ثقيل الوزن لا يرغب في المبارحة رغم محاولاتك لطرده. تبحثُ عن خبرٍ يبدّد الكآبة من دون جدوى. الأخبارُ من سيئ إلى أسوأ. لا رغبة في الخروج إلى الشارع، بل لا رغبة في مبارحةِ الكنبة الواسعة، تجلسُ هنا، تأكلُ هنا، تنامُ هنا. لا طاقة للتحرّك حتى إلى غرفةِ النوم. تمرّ السّاعات والسّاعات وأنت تتنقل بين عاجلِ القنوات التلفزيونيّة والمواقع الإخباريّة وتبادل المعلومات المؤكّدة مع الزملاء والأصدقاء في مكان الحدث، إنْ توفرت. 

اطمئنان بادئ الأمر إلى أنّ أحدًا من الأقارب أو المعارف لم يُصبْ بأذى، وغضبٌ على مصير ما يقارب الثمانين مواطنًا مدنيًّا جلّهم من الأطفال والنساء نُقلوا الى المستشفى القريب الذي تضرّر هو بدوره من الضربةِ التي أصابت المبنى السكني المجاور ذي الطوابق الثمانية. تسأل نفسك: لم نقول دائمًا مدنيون جلّهم من الأطفال والنساء؟ أو ليس الرجال من المدنيين على قدمِ المساواة في البراءة التي تُوجب الإعفاء من دائرةِ الانتقام؟

تطمئنُّ إلى أنّ قريبتك العائدة ليلة العدوان من سفرٍ إلى الخارج قد وصلت بخيرٍ إلى المطار أولًا، ثمّ إلى منزلها، ثم إلى أنّ منزلها القريب من مكان الضربةِ الإسرائيلية لم يتضرّر. الأصدقاء والمعارف يتبادلون كلاسيكيات الأخبار الشخصيّة على خلفية العدوان: من كان هناك؟ ومن ترك المكان قبل قليل؟ أو كيف غادروا قبل ساعة، أو ليلة، مكان الضربة أو جوارها بالمصادفة الإلهية. 

غيرهم لم يغادر بالمصادفة، بل عن سابق وزن للاحتمالات لِما قد يحدث، بالتزامن مع علوّ مستوى توتّر الوضع الذي ترجمته تقارير إخبارية وتحليلات عن نيّات إسرائيل. يجرؤون؟ لا يجرؤون؟ حسموا بالمغادرة. فإسرائيل لا وازع أخلاقياً يمنعها من قتل المدنيين. ها هي تبيدُ شعباً بكامله أمام أنظار العالم منذ ما يقارب العام. لِمَ المغامرة؟ كانوا على حق.

حسنًا. انتهى انتشال الضحايا. تأكّد خبر الاغتيال. تتمشّى في المنزل وصوتُ التلفزيون يلعلعُ مكرّراً ما قاله قبل ساعة، لكن بأصواتٍ مختلفة. ترثي لحال الزملاء في الميدان المجبرين على ملءِ الهواء بالانتظار واللاخبر. تقولُ في نفسك إنّه في أحداثٍ كهذه، بإمكان اختصار بثّ يوم كامل إلى ساعةٍ واحدةٍ وخبر واحد مؤكّد.

عاجل آخر فجرًا: اغتيالُ رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنيّة، في طهران. تعودُ إلى الشاشات. تتسقّط التفاصيل. ثم تُصغي محاولاً تمييز أصوات هدير يشق سكينة الفجر بعد الأذان. أهذا طيران حربي؟ لا.. قد يكون صوت مولّد بعيد.

الخيارُ وهمٌ. مجبرٌ أخوك لا بطل. أو بالأحرى مجبرٌ أخوك أن يكونَ بطلًا

اليوم التالي. يكادُ صوت التلفزيون الذي يجترّ نفسه منذ ساعات يؤثّر فيك كما لو كان تنويمًا مغناطيسياً. يُهدهدك ويدفعك ببطءٍ، ورويدًا رويدًا، بعيدًا عنه إلى داخلك. تُحاول، وأنت تتمشّى في ممرّ البيت الطويل، تفحص مشاعرك المضطربة. تجرّب تهدئة خواطرك وأنت تفكّر في سفرتك المُقبلة إلى خارج الشرق الأوسط الذي تلعن الساعة التي وُلدت فيها في جغرافيّته الملعونة. تنقطع الكهرباء، فينقطع خيط تفكيرك: ها هو الخارج يقتحم قوقعتك. تغضب لتوقّف المكيّف، ثم تنهالُ بالشتائم على البلد والناس ووزير الكهرباء الذي تكاد تتهمه بالتنسيق مع العدو ضدّك.

حسناً. فلأخرج. تقول في نفسك. الصديقة الأنيقة التي تسكن الضاحية، بالضبط مقابل المبنى الذي قصفته إسرائيل، أصادفها تتسوّق في منطقة الحمرا. بدا مظهرها مهملاً قليلاً عكس عادتها، كمن لا طاقة لديه لترتيبٍ يكترثُ له الآخرون. تُخبرني كيف أنّ ابنتها طلبتْ منها قبل ليلة فقط من العدوان أن تخرج من الضاحية. تروي ذلك بحماسةِ من نجا بأعجوبة. تفرح لسلامتها. لكن للأسف، لا يبدو أنّ الأعجوبة كانت من نصيبِ الجميع. تقول الأخبار إنّ المحصلة النهائية للعدوان على العاصمة كانت سبعة قتلى بينهم طفلان، فتاة وصبي، وسيّدتان، إضافة إلى ستة وسبعين جريحاً. 

انتهى الحدث لكن الشارع كئيب ومتوتر. الحرّ الشديد يزيدُ من تجهم الوجوه وتعرّقها. تنطلقُ الأبواق بعصبيّة في زحمةِ سير علقنا فيها. يسأل سائق الباص رجلاً عجوزاً استوقفه عن سبب الزحمة، فيجيبه هذا الأخير، وهو يلهث أنّ هناك حادث تصادم بين دراجتين ناريّتين كانت تتنافسان على أفضليّةِ المرور. يقطعُ العجوز تذكرةً ثمّ يجلس بثيابه الملتصقة بجسده من العرق في كرسي الباص الذي لا يقلّ عنه ترهلاً، ثم يقول كمن يختم شهادته "قبّروا بعضهم وحياتك".

دمٌ لا ينفك يروي أرضاً تصبح أكثر فأكثر مقدّسة بأكثر ما يتحمّله البشر

تصلني رسالة من علي، الصديق الذي هاجر منذ زمنٍ بعيد إلى إيطاليا. الغربة لا تقي من الكآبة إن كان قلبك لا يزال هنا، في الوطن. أحاول قراءة رسالته العربيّة المكتوبة بأحرف لاتينية. يقول إنّه موجوع، وإنّه غاضب، وإنّه كفر بالعدل في العالم وبالإنسانية. يقول ذلك ثم يردف كلامه بجملةٍ تختم المحادثة قبل أن أُجيبه، كمن يعتذر على إثقالِ الآخرين بهمومه. أجيبه بملصق (ستيكر) حزين. بتُّ أحب ملصقات الحواراتِ الهاتفية. تُعوّضني عن وصف مشاعري بحديثٍ طويل حين لا أرغب في الكلام.

 يسألني ما الذي علينا فعله للخروج من كلّ هذا الموت والغضب والتعب. لا أُحير جوابًا. اسأله: هل لدينا خيار؟

أمضّني هذا السؤال الذي كنت أعرف إجابته، لكنّي، وبالرغم من ذلك، لا أنفك أبحث عن جوابٍ آخر، آمل جواباً آخر قد يكون اختبأ منّي وفاتتني ملاحظته. 

لا خيار، أعلم. الخيارُ وهمٌ. مجبرٌ أخوك لا بطل. أو بالأحرى مجبرٌ أخوك أن يكونَ بطلًا. فهو وأنت في الزاوية، محشوران: العدو من أمامكما والبحر من خلفكما. ولا مفرّ من المواجهة. إمّا ذلّ وقهر وموت بالتقسيط، وإمّا احتمالات بحياةٍ أفضل، لكن بثمن الدم الغالي. دمٌ لا ينفك يروي أرضاً تصبح أكثر فأكثر مقدّسة بأكثر ما يتحمّله البشر.