هل البقاء للأغنى؟ ماذا عن الفقراء؟
إذا ما وصفنا الفقر بأنّه الافتقاد للموارد الأخلاقية والاجتماعية والمادية التي نحتاجها لتطوير القدرات اللازمة للأفراد والمجتمعات والمؤسسات، فإنّ كلّ ملياردير في العالم يمثل فشلاً للسياسات العامة، كما حذرت منظمة أوكسفام في تقريرها الذي نشرته تزامناً مع افتتاح منتدى دافوس الاقتصادي، داعية إلى خفض عدد هؤلاء الأثرياء إلى النصف بحلول عام 2030 وفرض ضرائب عالية لتوفير ما يكفي لانتشال ملياري شخص من الفقر المدقع، علماً أنّ (بحسب التقرير) أغنى أغنياء العالم يستحوذون على 63% من أموال العالم.
إذن، ولكي نكون واضحين، فالهدف أمام المجتمعين في دافوس ليس فقط تفكيك الأسباب المؤدّية إلى الفقر، بل، أيضاً، شغل انتباههم للأسس الصحيحة اقتصادياً لبناء نظام عالمي عادل، خاصة أنّ البنك الدولي حذّر من أنّنا نشهد أكبر زيادة في عدم المساواة والفقر على مستوى العالم منذ الحرب العالمية الثانية.
وتؤخذ الاعتبارات الاقتصادية بالحسبان في تخفيف وطأة الفقر على تكوين الثروة، إلا أنّه لم تؤخذ بالاعتبار التمرّكز الشديد للثروة في أيدي الأفراد القلائل. ففي عالم شديد الترابط، يوجد الفقر المدقع والغنى الفاحش جنباً إلى جنب، حيث أوضح التقرير، بالأسماء والأرقام، ثروة أغنى أغنياء العالم، وهي تفوق الإنتاج المحلي لدول بأكملها.
قد يكون أحد العناصر الجوهرية لاستراتيجية تطويرية مستدامة هو إعادة إصلاح السياسات الزراعية، إذ يعدّ إنتاج الطعام والزراعة مصدراً هاماً للتوظيف وينقذ العالم من مجاعات محقّقة، حذّر منها الخبراء في ظلّ مرور عام على حرب روسيا ضد أكرانيا. كما أنّ الفقراء في الدول النامية يعيشون في المناطق الريفية ويعتمدون على الزراعة مصدراً للرزق. ورغم أنّ الزراعة فقدت قيمتها لدى جيل الشباب الذين ينشدون العمل القليل والأرباح الطائلة، إلا أنها لا تزال اللبنة الأساسية للحياة الاقتصادية.
أما توفير عمل ذي فائدة مجتمعية، فلا بدّ أن يكون هدف كلّ جهد يهدف إلى تخفيف حدّة الفقر. ثمّ إنّ المشاركة الجدية للشباب تصبح أكثر أهمية مع تزايد وجود الأحياء الفقيرة، التي ترتفع فيها معدلات الإجرام وتعاطي المخدرات والبطالة والتفكك الأسري والانعزال الاجتماعي. كما أنّ الفقدان لتوظيف ذي معنى يغذّي إحباطهم وخيبة أملهم. ولسنا بحاجة لإعادة النظر في كم العمل فحسب، بل إلى إعادة النظر في نوعية ومعنى العمل أيضًا. مهما يكن، يجب ألا يُقَلّل هذا العمل إلى مجرّد وسيلة لكسب سلع أكثر أو كسب كلفة إنتاج مستهان بها، ويمكن التخلّص منها. فالعمل، بالنسبة لأي شخص، هو الوسيلة لتطوير حرفته، وصقل شخصيته، والمساهمة في خير وتقدّم المجتمع.
لسنا بحاجة لإعادة النظر في كم العمل فحسب، بل إلى إعادة النظر في نوعية ومعنى العمل أيضًا
ولعلّ مشاركة أكثر من 50 رئيس دولة وحكومة في منتدى هذا العام، وهو رقم قياسي، إلى جانب رؤساء البنوك المركزية ووزراء المالية، بالإضافة إلى عمالقة عالم الأعمال، مؤّشر ينبئ بحجم الركود الاقتصادي وكيفية إنقاذ العالم منه. ونتمنى، كما أوكسفام، ألا يكون تجمّع النخبة العالمية هذا مقتصراً على الوعود والخطط دون الأفعال في ما يتعلق بحلّ مشاكل الفقر، حيث تؤكد المديرة التنفيذية للمنظمة، غابرييلا بوشر، أنّ الناس العاديين يقدّمون تضحيات يومية تتعلّق بالضروريات اللازمة للحياة الأساسية مثل الطعام، في حين أنّ فاحشي الثراء تفوّقوا حتى على أكثر أحلامهم وحشية، وأضافت: هل يمكن أن يكون "البقاء للأغنى؟".
وأخيراً، الموضوع معقد، ويحتاج، بالإضافة للجهود المبذولة في مجال استئصال الفقر من قبل الخبراء، ألا نغفل عن أمرين في غاية الأهمية: العدل والوحدة، فهما يشكلان أساس الرؤية لتطوّر يكون فيه التقدّم المادي وسيلة للتقدّم الأخلاقي والحضاري للبشرية. كما يَوَفُر العدل الوسيلة لاستئصال الفقر من بيننا، عن طريق تطبيق القانون، وتعديل الأنظمة الاقتصادية، وإعادة توزيع الثروة وإتاحة الفرص والتمسّك بأعلى المعايير الأخلاقية في الحياة الشخصية والعامة دون أدنى تقصير. أما بالنسبة للوحدة، فتؤكد على أنّ التقدّم يتصف بأنه شمولي كلّي منظم ومرتبط بعضه ببعض، وأنه يجب أن يوّجه جهودنا لتخفيف وطأة الفقر اهتمامًاً بسلامة وكمال وحدة الأسرة والمجتمع المحليّ والوطنيّ والعالميّ.