هزليات السياسة الأسدية (37)

17 فبراير 2020
+ الخط -
الضرورات اللوجستية لمديح حافيييظ
قال كمال إن "التقية السياسية" هي السمة الأساسية التي تميز الشعوب الغلبانة التي تقع تحت حكم الأنظمة الفاشية المستبدة، وفي مقدمتها، بلا شك، نظام الأسد البراميلي.

كان هذا تعقيباً على الحكاية التي رويناها في جلسة الإمتاع والمؤانسة السابقة.. حكينا، وقتئذ، عن كاتب عُرف عنه ولعُه بالحرية والديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان والحيوان والشجر.. وفي ذات يوم أحب أحد المخبرين أن يجي بأجله فكتب بحقه تقريراً أكبر من ملحفة اللحاف يؤكد فيه أن هذا الكاتب عضو في منظمة حقوق الإنسان العميلة، المرتبطة بالدوائر الإمبريالية المعادية للشعوب المناضلة، وتهدف إلى تقويض نظام الحكم التقدمي الذي يقوده الرفيق المناضل حافييظ الأسد، وجزأرة سورية (أي: دب الفوضى فيها مثل الجزائر)، وتسليمها لقمة سائغة للصهيونية..

فرع المخابرات الذي وصله التقرير كلف أحدَ عناصره بالتحقيق، والعنصر ذهب أولاً إلى الكاتب وسأله عن صحة المعلومة، فخاف الكاتب، وخَشَّب، وصار يبلع ريقه بصعوبة، وقال للعنصر: أبداً والله، لست عضواً في أي واحدة من منظمات حقوق الإنسان الحقيرة، أنا أكره هذه المنظمات، بل أنا ضد حقوق الإنسان بشكل عام، يا رفيق ثق بأنني إنسان مستبد، في داخلي ميل قوي للبطش بالناس وإيذائهم، مؤمنٌ بقول المتنبي (والظلم من شيم النفوس..)، ووالله لو كان بيدي سلطة لتحولت إلى مجرم سفاح!


قال أبو زاهر: مو كل "تقية" بتخلي الإنسان يسْلَمْ من أذى نظام البراميل، ومو كل مرة بتسلم الجَرّة. يعني مفكر إذا بتقول للمخابرات (ما دخلني، أنا مستبد) راح يصدقوك بهالبساطة؟ أبداً، لأنه المخبر الحقير بيكون على الأغلب مدعم تقريرُه بالوثائق، لا تستغرب يكون آخد صور فوتوكوبي لمقالاتك وبعض قصصك اللي بتسخر فيها من الديكتاتورية، أو مقالات بتتمنى فيها يكون عندنا ديمقراطية وتداول السلطة متل الشعوب اللي بتفهم.. إلى آخره. على كل حال أنا هلق خطرت لك حكاية معبرة، إذا بتحبوا بحكي لكم إياها.

قال أبو محمد: طبعاً منحب. أصلاً نحن عم نجي لهون منشان نسمع حكايات ومنتسلى ومنستمتع.

قال أبو زاهر: لما نقلونا، بعد تسع سنين اعتقال، من سجن تدمر لسجن صيدنايا، أنا تعرفت على واحد أديب وصحفي اسمه "إبراهيم"، صايرة معه نفس المشكلة اللي كنتوا عم تحكوا عليها.

قال كمال: أي مشكلة بتقصد؟

قال أبو زاهر: مشكلة "التقية السياسية". هادا يا سيدي؛ الأديب إبراهيم كان يشتغل في صحيفة حكومية، وكان يكره النفاق اللي بيظهر على أشباه الشعراء والكتاب لحافظ الأسد، وبالأخص في المناسبات اللي بيسموها قومية. كان يقلي إنه كل الوظايف في سورية خير وبركة ما عدا الوظيفة في الصحافة، لنفرض إنك موظف في وحدة من دوائر الدولة.. في مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل مثلاً، وصارت مناسبة من تبع الهيصة والزنبريطة، وأجبروك تطلع في مسيرة تأييد لحافييظ الأسد.. إنته بتطلع متل كل هالموظفين اللي بيجبروهم ع الطلعة، لكن بعدما تمشي ميتين أو تلاتمية متر، وبكل بساطة، بتتلفت حواليك وبتفكَحْ. يعني بتهرب. عندنا في الصحافة ما في فكحة ولا مهرب.

أصلاً هني ما بيختبروا ولاء الصحفيين بالمسيرات. بتعرف ليش؟ سألته: ليش؟ قال لي لإنهم ما بيعانوا من نقص في البشر، وقت بيقرروا يطلعوا نص مليون أو مليون إنسان بيطالعوا، وبيجبروهم يشيلوا لافتات وصور ويعيشوا ويسقطوا ويدبكوا، لكن الصحفيين عددهم قليل، وكل واحد منهم إله إسم.. وبرأيهم إنه مقالة واحدة مؤلفة من 500 كلمة بتمدح فيها حافييظ وبتحط عليها توقيعك أحسن من عشرين مسيرة. وأكتر شي بيهمهم يا سيدي الصحفي اللي بيكون متلي أنا. قلت له: عفواً أستاذ إبراهيم، شلون يعني متلك؟

قال لي: راح إشرح لك شلون. هني إذا بدهم يخلوا الصحفيين الانتهازيين يكتبوا ويمدحوا حافيييظ ما بيستفيدوا شي، لأن هدول بطبيعة الحال بيكتبوا كتير من هالعلاك وهالأكاذيب كومات، أصلاً هدول الصحفيين الإمَّعَات ما بينتظروا حدا يقول لهم امدحوا الرئيس حتى يمدحوه.. لكن الموضوع بالنسبة إلي مختلف. أنا يا أخي أبو زاهر أكتر واحد من الموظفين في الصحيفة بدافع عن حقوق الناس. كلما بسمع بمسؤول كلب حقير بيعتدي ع حقوق الناس، في دمشق أو في المحافظات، بكتب ضده، وببهدله، وبمسح فيه الأرض، حتى في مسؤول من إحدى المحافظات أجا عَ الشام واشتكي علي لنقيب الصحفيين، وقال له إني عم أزوّر الحقائق، وإني معتمد في سياق المقالة اللي كتبتها ضده على معلومات كيدية قدم لي إياها واحد من خصومه، ولما عرفت أنا بالقصة قطعت الطريق على نقيب، ونفضته للمسؤول المذكور مقالة من كعب الدست، ذكرت فيها معلومات فاتني ذكرها في المقالة السابقة، وقلت في خاتمة المقالة إني ما بستبعد ألاقي جهات حكومية أو نقابية وشخصيات انتهازية عم تدافع عن هالمسؤول الفاسد، لأن الفاسدين بيشبهوا القواديس تبع الناعورة اللي بتغرف المياه من النهر، وكل قادوس بيصب على مؤخرة القادوس اللي تحته.


واستمرت الأمور بيني وبين هالمسؤول سجال لحد ما أقالوه من وظيفته، وأنا ما حدا قرب علي لأني غير فاسد بالطبع.. ولإني إلي إسم كبير في عالم الصحافة استقتلتْ الأجهزة الأمنية لحتى يخلوني إمدح حافيييظ.. إذا أنا مدحت حافييظ بيكونوا هني ضربوا عصفورين أو تلات عصافير بحجر واحد. أول عصفور بيكسبوا تعاطف الناس النضاف اللي بيسرّهم إنه الصحافة ما تكون خالية من صحفي جسور بيحارب الفساد متلي، والتاني إنه مديحي لحافظ بيوصِّل للناس قناعة غير مباشرة بتفيد إني لما أنا بحكي في مقالاتي عن الفساد ما بقصد الرئيس، وهادا الشي بيحقق مقولة إنه (الرئيس كويس بس اللي حواليه أوباش)، والتالتة إنه هادا النظام ما في عنده كبير غير الجمل، والكل لازم يمدح. والرابعة إنه لما الصحفي بيكبر من خلال شغله ومواقفه بيصير بالنسبة إلهم مخيف، ولازم يزغروه، واللي بيمدح حافييظ أكيد بيزغر.

قلت للأستاذ إبراهيم: أنا هلق متشوق حتى أعرف. بالأخير مدحته لحافييظ ولا ما مدحته؟

فضحك وقال لي: أنا مفكر عقلك أكبر من هيك يا أبو زاهر. لو أني مدحتُه شو كان خلاني أوصل لهون؟!

(للقصة بقية)
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...