هابرماس "لا" يمثل الفلسفة الغربية
يُنسب إلى علي بن أبي طالب قوله: "لا تنظر إلى من قال، وانظر إلى ما قال". وفي الشروحات المقدّمة لذلك القول، نقرأ: "لا يمنع حال القائل من خسّة النفس، ودناءة النسب، وترك العمل، وسوء الأدب، من قبول قوله، وسماع كلامه، واقتباس العلم والحكمة من فيه". وبغضّ النظر عن التوجهات العنصرية التي يتضمنها ذلك الشرح، فمن الواضح أنّه يشير إلى ضرورة التمييز أو الفصل، تمامًا وكليةً، بين القائل والقول. وبهذا المعنى، يُفهم الحديث أو القول المأثور: "الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها". وفي الواقع، ينبغي أن تكون الحكمة ضالة المؤمن وغير المؤمن، وهي جديرةٌ بأن يحصل عليها الإنسان، بغضّ النظر عن مصدرها.
على الرغم من معقولية هذا الفصل بين القول وقائله، ليس نادرًا أن نتبنى أفكارًا، أو نتأثر بها، نتيجة تأثرنا بتبني آخرين لها. فشعورنا بالتقدير تجاه بعض الأشخاص يمكن أن يجعلهم مالكين لسلطةٍ معنويةٍ علينا، وأن يجعلنا نشعر بثقةٍ أكبر بآرائهم وتوجهاتهم. وليس نادرًا أن تتسلّل الكثير من الاعتقادات غير الدقيقة إلى فكرنا، ويكون لدينا ما يسميه فرانسيس بيكون "أوهام المسرح"، وهي أحد أربعة أنواعٍ من "أوهام العقل": أوهام الجنس أو (القبيلة)، أوهام الكهف، أوهام السوق، وأوهام المسرح.
إنّ ربط الأفكار بالأشخاص أو شخصنة الفكر والانتقال من الحكم على الشخص إلى الحكم على أفكاره أو الأفكار التي يتبناها، وبالعكس، أمورٌ تحتاج إلى الكثير من التأنّي والضبط المعرفي والنفسي والأخلاقي. ويمكن بالتأكيد انتقاد شخصٍ لوجود تناقضٍ بين أفكاره وأفعاله. وهذا ما فعله كثيرون، في انتقادهم، على سبيل المثال، لموقف الفيلسوف الألماني، يورغن هابرماس في "بيان التضامن" المخزي الذي أصدره مع ثلاث شخصياتٍ ألمانيةٍ أخرى. وعلى سبيل المثال، نجد ذلك النقد واضحًا تمامًا في عنوان مقالٍ لآصف بيات، باللغة الإنكليزية: "يورغن هابرماس يناقض أفكاره الخاصة عندما يتعلق الأمر بغزة".
وتبقى قيمة أفكار أي شخصٍ متمايزةً أو منفصلةً عن قيمة أفعال صاحبها، أو هذا ما ينبغي أن تكون عليه الأمور. ولو حاكمنا، على سبيل المثال، فلسفة جان جاك روسو في التربية، بناءً على تعامله مع أبنائه الخمسة، الذي تجلّى في تخليه عنهم، ووضعهم في دور الأيتام، لظلمنا فلسفته كثيرًا. ولحسن الحظ، ثمّة من أدرك، دائمًا، أن تعامل روسو مع أبنائه لا ينفي أنّ كتابه "إميل: في التربية" هو (أحد) أعظم كتبه، و(أحد) أهم الكتب الرائدة في فلسفة التربية عمومًا. وعلى المنوال ذاته، ينبغي التعامل مع هابرماس وأفكاره عن الحداثة والتواصل والمجال العام ومجتمع ما بعد العلمانية، ومع راينر فورست وأفكاره عن التسامح والاعتراف والعدالة، ومع بقية من يتخذون "موقفًا هابرماسيًّا" أو غير هابرماسيٍّ، من القضية الفلسطينية أو من غيرها من القضايا.
شعورنا بالتقدير تجاه بعض الأشخاص يمكن أن يجعلهم مالكين لسلطةٍ معنويةٍ علينا، وأن يجعلنا نشعر بثقةٍ أكبر بآرائهم وتوّجهاتهم
ويمكن وينبغي للقيام بالفصل المذكور أن يجعلنا نتأنّى كثيرًا من الانتقال من تقدير أفكار أو مواقف شخصٍ ما، في سياقٍ ما، أو في خصوص مسألةٍ ما، إلى تقدير الشخص ذاته إجمالًا. وربّما كانت الخبرات التي مررنا بها، نحن السوريين، في السنوات والعقود الأخيرة، قد جعلتنا أكثر حذرًا من آخرين كثر، في خصوص الإشادة بالأشخاص، لمجرّد أنهم يتبنون مواقف نراها متوازنةً ومنصفةً، معرفيًّا وأخلاقيًّا، حيال القضية الفلسطينية والصراع الفلسطيني/ العربي الإسرائيلي عمومًا. فعددٌ ليس قليلًا من هؤلاء يتبنى تلك الموقف ﻟ "أسبابٍ خاطئةٍ"، أو لأسبابٍ لا علاقة لها بتبنيهم لتوجهٍ أخلاقيٍّ مبدئيٍّ مناصرٍ للحريات ولقيم العدالة والإنصاف، من جهةٍ، ومناهض للاستبداد ولما يرافقه من ظلمٍ وقمعٍ وإجرامٍ، من جهةٍ أخرى. ولهذا نجد أنّ كثيرين من هؤلاء هم من المؤيدين أو المسوِّغين للاستبداد (الأسدي) ولسلوك بقية أطراف جماعة المقاومة والممانعة، على الرغم من أنّ جرائم الأطراف المذكورة بحق السوريين فقط، وبحق المدنيين والعزّل منهم فقط، لا تقلّ، لا كمًّا ولا كيفًا، عن الجرائم الإسرائيلية بحق كلّ الفلسطينيين، ليس في هجومهم الأخير على غزّة فحسب، بل منذ قيام دولة إسرائيل والنكبة الفلسطينية، عام 1948.
وعلى الرغم من أنّ هابرماس هو أحد أهم الفلاسفة الألمان والأوروبيين، ومن أكثرهم حضورًا وتأثيرًا، في العقود الخمسة الأخيرة، لا يمكن عدُّه الممثل (الوحيد أو الرئيس) للفلسفة الأوروبية أو الغربية عمومًا، ولا يمكن اتخاذ موقفه السياسي اللاأخلاقي الأخير ذريعةً أو مسوّغًا لإطلاق أحكامٍ متسرّعةٍ وتعميماتٍ مجحفةٍ كتلك التي أطلقها حميد دباشي، أخيرًا، حين تحدّث عن أنّه "بفضل غزة تمَّ الكشف عن الإفلاس الأخلاقي للفلسفة الأوروبية". وكما هو متوقعٌ من أصحاب تلك التعميمات الاستغرابية (نسبةً إلى الاستغراب بوصفه استشراقًا معكوسًا أو مقلوبًا)، اتخذ دباشي من هابرماس وخطابه وموقفه المخزي من إسرائيل وجرائمها في غزّة أساسًا للتدليل، ليس على وجود مشكلةٍ أخلاقيةٍ في موقف هابرماس وأمثاله أو في صميم الفلسفة الهابرماسية، فحسب، وإنّما للشطح، أيضًا، باتجاه إنكار أخلاقية الفلسفة الأوروبية برمتها. ومثل هذه التعميمات ليست غريبةً عن من يتبنون رؤيةً استشراقيةً، بالمعنى المذموم الذي تحدّث عنه إدوارد سعيد، أو رؤيةً استغرابيةً، بالمعنى المذموم أيضًا الذي تحدّث عنه صادق جلال العظم. وعلى الرغم مما يبدو من تناقضٍ بين الاستشراق والاستغراب، فإنّ التدقيق في أسسهما وتوجهاتهما المعرفية والمعيارية يبيّن أنّهما متشابهان ومتماثلان في العمق إلى درجةٍ كبيرةٍ.
ثمّة أشخاصٌ قد حوّلوا رغباتهم إلى أحكامٍ معرفيةٍ، ظهرت في صيغة تعميماتٍ مجحفةٍ أخلاقيًّا وغير دقيقةٍ معرفيًّا، في خصوص الإسلام والثقافة المرتبطة به، أو في خصوص الغرب وفلسفته وثقافته
هابرماس ممثلٌ للفلسفة الأوروبية، لكنه ليس الممثل (الوحيد أو الرئيس) لها. وينبغي عدم اتخاذ بيانه الأخير أو مواقفه من إسرائيل، عمومًا، ذريعةً لنفي القيمة المعرفية الفلسفية والأخلاقية المعيارية للكثير من الأفكار التي نظَّر لها، وتبناها، وأسهم في نشرها، من خلال كتاباته. كما ينبغي الانتباه والتنبيه إلى أنّ مئات، بل آلاف، الفلاسفة الأوروبيين أو الغربيين وغير الغربيين قد تبنوا، صراحةً، وفي بياناتٍ ونصوصٍ ولقاءاتٍ، في المجال العام الأكاديمي وغير الأكاديمي، مواقف منصفةً، معرفيًّا وأخلاقيًّا، لدرجةٍ أو لأخرى، من القضية الفلسطينية. وينبغي أخذ ذلك كلّه في الحسبان، عند إطلاق الأحكام على الفلاسفة (الغربيين) والإفلاس الأخلاقي لهؤلاء الفلاسفة أو للفلسفة الأوروبية/ الغربية.
في مقابل التفوّق المادي الساحق ﻟ "الغرب"، يشدّد بعض "الشرقيين" المعادين لذلك الغرب، الفعلي أو المتخيَّل، على التفوّق الأخلاقي الساحق ﻟ "الشرق (المسحوق)" على "الغرب". ويذهب كثيرون منهم إلى الحديث عن لاأخلاقية الحداثة الغربية أو لاأخلاقية ذلك الغرب الحداثي. وهذا ما يفعله وائل حلاق، على سبيل المثال، في توصيفه أو تقييمه (غير المنصف من وجهة نظري) للدولة الحديثة. وغالبًا ما يقع المستغربون الذين يقسّمون العالم إلى قسمين (غربٌ متفوقٌ ماديًّا، ومنحطٌّ أخلاقيًّا، مقابل شرقٍ متخلّفٍ ماديًّا، لكن يملك كلّ مقومات التفوّق الروحي أو الأخلاقي) في مفارقةٍ طريفةٍ، وذات دلائل عميقةٍ. وتتمثّل تلك المفارقة بأنّه على الرغم من نفيهم أو إنكارهم لأخلاقية الحداثة الغربية و/ أو الغرب الحديث، فإنّهم لا يتردّدون، عند الحاجة، في مطالبة ذلك الغرب باحترام منظومة الإنسان ومبادئ الديمقراطية والقيم الكونية التي يرون أنها مرتبطةٌ أو مربوطةٌ بالغرب. وتبدو منظومة القيم المذكورة لهؤلاء المستغربين أشبه بأداةٍ يودّون استغلالها بغرض الحصول على كلّ الميّزات والإيجابيات التي تتضمنها، من دون أن يلزموا أنفسهم بها، أو يقبلوا الالتزام بها، بدعوى أنها منظومةٌ حقوقيةٌ غربيةٌ أو علمانيةٌ ...إلخ.
الحديث عن العلاقة التمثيلية بين هابرماس والفلسفة الأوروبية/ الغربية يشبه الحديث عن العلاقة التمثيلية بين داعش والإسلام. فكما أنّ هناك كثيرين من المسلمين وغير المسلمين يرون أنّ "داعش (لا) تمثّل الإسلام الحقيقي"، هناك، في المقابل، كثيرون آخرون يرون أنّ "موقف هابرماس (لا) يمثل الفلسفة الغربية/ الأوروبية الحقيقية". فثمّة أشخاصٌ قد حوّلوا رغباتهم إلى أحكامٍ معرفيةٍ، ظهرت في صيغة تعميماتٍ مجحفةٍ أخلاقيًّا وغير دقيقةٍ معرفيًّا، في خصوص الإسلام والثقافة المرتبطة به، أو في خصوص الغرب وفلسفته وثقافته. وبذلك، وقع الأشخاص المذكورون في الوهم النفساني، بالمعنى الفرويدي، و/ أو انزلقوا إلى الخطأ المعرفي، بالمعنى الديكارتي. وبالتضاد مع هذين الطرفين المتطرّفين، ثمّة من يحاول ضبط النقاش معرفيًّا، من خلال التشديد على أنّ الإسلام إسلامات، وأنّ داعش إحدى ممثلي هذا الإسلام فعليًّا، من دون أن تكون الممثلة (الوحيدة أو الرئيسة) لذلك الإسلام الفعلي. كما يتم التأكيد، بموازاة ذلك، أو انطلاقًا من المنطق المعرفي ذاته، أنّ الفلسفة فلسفاتٌ، والحداثة حداثاتٌ، وموقف هابرماس يمثل داعشيةً فلسفيةً جزئيةً، من دون أن يكون قادرًا على تمثيل الفلسفة الأوروبية/ الغربية بكليتها أو جوهرها، الفعلي أو المظنون.