نُزهة الغروب (3): في ما إذا أُغلقت أبواب الكارتون دون الأطفال‬

06 ابريل 2023
+ الخط -

لا زالتْ أغنية مقدّمة سلسلة "افتح يا سمسم" تُطربني، وتهزّ شيئاً عميقاً يسكنُ نفسي. أتذكّر الأطفالَ (في جينريكها) وهم يركضون ويُنشدون:

"افتح يا سمسم أبوابك نحن الأطفال...

افتح واستقبل أصحابك نحن الأطفال

(...)

افتح افتح

نفرح نفرح

افتح قد جينا

حيينا

دنيانا جمال....".

أحاول أن أفسّر كيف حافظت هذه الأغنية، ومن ورائها عالم "افتح يا سمسم" على وقع في نفسي، وقد تراكمت طبقات من السنين والمشاغل، وتكسّرت نصالٌ كثيرة، ورغم ذلك تحتفظ بعض الأشياء ببريقها، ومنها هذه الأغنية، بل كأنّ هذا البريق يتجدّد بفعل النوستالجيا أو ربما بسبب نُدرة "الجمال في دنيانا" اليوم...

لستُ متأكّداً، ولكن ربما توقظ تلك الأغنية لحظة قديمةً كنتُ أفرح فيها حين تأتي حصّةُ الأطفال من التلفزيون، ما بعد العصر يومياً، فتختلط في نفس الحلقة أشكالٌ من الفرجة بين الصور المتحرّكة وتحريك العرائس والمادة التعليمية.

لم يكن ذلك الارتباط بسلسلة "افتح يا سمسم" حكراً على الأطفال، فقد كانت جدّتي تشارك في حضور الحلقات، وبعد أن كانت مجرّد متابع ثانويّ صارت متحمّسة أكثر من أحفادها، ومُواظِبَة على مُشاهدة حكايات "نعمان" وأصحابه.

بعد أن كانت جدتي مجرّد متابع ثانويّ صارت متحمّسة أكثر من أحفادها، ومُواظِبَة على مُشاهدة حكايات "نعمان" وأصحابه

في الحقيقة، لم تكن سلسلة "افتح يا سمسم" يتيمة عصرها (اللهم في ما عدا كونها عربية أكثر من غيرها)، فقد رافقتها روائع أخرى موجّهة للأطفال، ما تزال هي الأخرى قادرة على تحريك سواكن في نفسي مثل مغامرات ساسوكي، ومتاهات غراندايزر في الفضاء، وطرائف كعبول وعبقرينو، وعالم السنافر، وصولاً إلى مرحلة أخرى أخذت سلاسل (معظمها آتية من اليابان) مواقع أساسية في شبكة الاستهلاك الثقافي الأولى، أعمال مثل "النمر المقنع"، و"الصياد الصغير" و"بيل وسبستيان"، و"الهداف"، و"الكابتن ماجد" وصولاً إلى ما أعتبره آخر العنقود؛ "المحقق كونان" (وهذا نسبيّ جداً)، وبلا شكّ فقد وضعت هذه الأعمال لبنة أولى في معرفة العالم...

كانت تلك الحكايات تلوّن الحياة بألوانها، وتصنع إيقاعها. بل لعله وحدة قياس الوقت: اليوم هو الفاصل بين حلقتين من السلسلة الكارتونية. ومن موقع اليوم، لا يمكن تذكّر الطفولة دون صور متحرّكة. مقارنة سريعة بين الأمس واليوم، تشبه مقارنة ألوان الصور المتحرّكة الزاهية بألوان الواقع الباهتة.

في معظمها، تقوم البُنية السردية لهذه المسلسلات على تتبّع مسارات "أبطال" من اليسير التمثّل بهم والنهل من تجاربهم، على عكس الأبطال الذين كانوا يحضُرون في القصص الموّجهة إلى الأطفال، مما تقترحه المدرسة، حيث النزعة التوجيهية أكثر بروزاً، وبالتالي أقلّ اعترافاً بذكاء الأطفال. كتّابُ سيناريوهات الصور المتحركة اليابانية كانوا يشتغلون في منطقة أخرى، اخترعوا يابان متخيّلاً وألقوا فيه الأطفال: المشاهدُ الطبيعية رهيبةُ التركيب والتلوين، والمدن نظيفة كأنها غُسلت قبل دقائق من التصوير، والشخصيات مرسومة بعناية، حتى الأشرار منها، وبذلك تتدفّق الحكايا بيسر ولطف، تترقرق كالماء في نهر وتؤثّت العالم في أذهان الأطفال المسحورين...

عناصر الفرجة الكرتونية اليوم لاتخاطب الطفل كما كانت تفعل في الماضي، ناهيك عن قدرتها أن تسكنه وترافقه إلى مراحل أخرى من العمر

على مسافة بعيدة جداً من تلك الأيام التي كنتُ فيها أحد الأطفال المسحورين، كثيراً ما يحملني الفضول إلى مشاهدة كارتون ياباني حديث، وفي الغالب أجد التوليفة ذاتها (الطبيعة الخلابة، المدن النظيفة، الشخصيات المرسومة بعناية...)، غير أنني لا أعثر على شيء من روح الكارتونات القديمة.

أتهم نفسي، فقد صارت عاجزة عن تذوّق أشهى الأطباق. من المؤكّد أنّ طبقات كثيرة من الغبار قد خنقت ذلك الطفل المسحور، غير أنني (من جهة أخرى) لا أجد أثراً لذلك السحر في عيون أطفال اليوم. لقد اختفى بالتدريج ذلك اليابان الذي أسكنوه سابقاً في عقول الأطفال، ولا أجد له بديلاً، وقد تضخّم العرض الكارتوني وتشظّى بين آلاف المنتجين الأميركيين والأوروبيين وغيرهم، ولم يعد هناك مرجعية كتلك التي عشنا (أطفال الثمانينات والتسعينات) على مقترحاتها.

وفيما تعدّدت الأيادي التي تكتب وترسم سلاسل الصور المتحركة، لا أشعرُ اليومَ بأنّ عناصر الفرجة الكارتونية تخاطب الطفل كما كانت تفعل، ناهيك عن قدرتها على أن تسكنه وترافقه إلى مراحل أخرى من العمر. والأرجح أني أخشى أن تسكن الأطفال تلك النزعات التي تتحضر في الكارتونات الحديثة، بسطحية معظم شخصياتها وضيق عوالمهم، وهي صورة ذهنية مجروحة باعتبار أنني أرسمها بعين غير عين طفل.

هذه الخشية نابعة مما وصلت إليه البحوث العلمية في مجالات علم نفس الطفل، والبرمجة العصبية، ونظريات التسويق. لا أحبّ أن أتخيّل كيف يمكن توظيف نتائج الأبحاث العلمية ضد الأطفال. أكتفي بأدنى بُعد من المأساة حين أرى ضمور المُتعة، وأرى تشتّت الأطفال بين المعروضات الكارتونية، وهي تأتي من كلّ صوبٍ؛ من التلفزيون ومن الكمبيوتر ومن الهاتف، وترى كثيراً من الآباء فرحين متى ما تخلّصوا من أبنائهم وسلّموهم إلى الشاشات.

تظلّ الأعمال القديمة ملاذاً وقد منحتها المنصّات الرقمية حياة جديدة. أعمال لم تعد تصل إلى أطفال اليوم، ولكنها لا تزال تستطيع أن تمنح الدفء لأطفال الأمس

في زمننا البعيد، وبحكم قلّة المعروض، كنّا لا نصاحب إلا سلسلة أو سلسلتين، وبذلك كان للشخصيات الكارتونية فرصةُ أن تنضج داخلنا وتكبر، أما اليوم فهي إلى الأكلة السريعة أشبه.

في هذا المشهد، تظلّ الأعمال القديمة ملاذاً وقد منحتها المنصّات الرقمية حياة جديدة. أعمال لم تعد تصل إلى أطفال اليوم، ولكنها لا تزال تستطيع أن تمنح الدفء لأطفال الأمس. وقد يكون ذلك أرضية للعبة تجارية جديدة، فها هي منصات البث الرقمي تقترح الكارتونات القديمة وتعمل على حجب عرضها المجاني. إنه حصارٌ يُضرب على لذة المشاهدة، وأبواب تُغلق بالتدريج في وجه الكائن البشري...

وإذا تحقّق هذا السيناريو الكابوسيّ، فماذا بقي للأطفال كي يشاهدوه إذا ما وجدوا سبيلاً للإفلات من أعمال اليوم المسكونة بالضجيج والإبهار. أطفال لا أحد يستقبلهم إذا هتفوا "افتح يا سمسم أبوابك نحن الأطفال"...