أركيولوجيا العقول المُحتلة.. هابرماس نموذجاً
وقّع المفكر الألماني يورغن هابرماس (1929)، مع ثلاثة باحثين ألمان آخرين في الفلسفة والعلوم السياسية، على بيان لنُصرة إسرائيل. وقد اختار الرباعي تصدير بيانهم بعنوان "مبادئ التضامن".
أن نقرأ هذا النص على ضوء الجرائم الإسرائيلية في غزة، يعني أن نكتشف بأن مُصطلحي المبادئ والتضامن لم يبق من مضمون معقول لهما، ذلك أن هابرماس ومن معه قد انحازوا بشكل مطلق إلى مرتكبي المجازر ولم يروا ضحاياها. تصوّروا أنهم قالوا "بعض المبادئ لا يجب أن تكون محل خلاف" وضمن هذا الإطار وضعوا "التضامن مع إسرائيل". بهكذا مصادرة، لم يعد هناك حقٌ حتى في اختيار من نتضامن معه. وبمبادئ من النوع الذي يدعو له هؤلاء، تصبح كل جريمة مبرّرة سلفاً.
ربما لم يكن من الممكن الوقوف على الضمنيات الخطيرة لكلام يتبناه فيلسوف بحجم هابرماس، لولا التباين الحاد بين الواقع كما نراه، والواقع الذي يود أن يفرضه هذا الخطاب، فالمكانة الاعتبارية لصاحب "المعرفة والمصلحة" كثيراً ما تنوّم متلقّي خطابه. وإن مما يُحزن في ما أقدم عليه هو هذا الاستعمال السيئ للمكانة الاعتبارية بحيث يكسر أكثر الثقة في الفكر الفلسفي ورموزه.
ترى كم من المسلمات الشبيهة قادت قرّاءه ومتابعيه لتبنّي منظورات أطلقها، لم تكن في نهاية الأمر سوى مدخل لفهم مغالط للوقائع. نتحدّث عن مفكّر قدّم أعمالاً موسوعية في الفلسفة وعلم الاجتماع، ولامست نظرياته ميادين التاريخ والسياسة واللسانيات، وأنتج عشرات المفاهيم التي تحوّلت إلى عدسات يرى بها الناس الواقع. أن نعرف، بعد ذلك، هذا الانحياز الصهيوني لهابرماس يعني ضرورة أن نعيد التفكير في كل ما استهلكناه منه...
الإشكالية أن بعض المفكرين، ومنهم هابرماس، غير قابلين للإقصاء أو حتى الإخفاء المؤقت من حقول معرفية أساسية نحتاجها. صاحب "نظرية الفعل التواصلي" أحد الذين لا يمكن طردهم من فضاء المعارف. متنُ هذا المفكّر لا يمكن تركه بالكامل، وإلا سقطنا في العدمية المعرفية، ومضينا إلى انتحار ثقافي جديد. وراء الفيلسوف الألماني بنيان معرفي شاهق فيه ما فيه من الدرر، وإن يكن فيه ما فيه من السموم فما علينا غير أخذ الحيطة وإعادة ترتيب علاقتنا الاستهلاكية بفكره.
هذا الانحياز الصهيوني لهابرماس يعني ضرورة أن نعيد التفكير في كل ما استهلكناه منه...
نتحدّث عن رجل حمل على أكتافه مشروع ترميم العقل، وانبرى يعيد تأسيس النظرية الاجتماعية. مفكّرٌ لم يكتف بوضع نظريات بل اقترح براديغمات، وانبرى في سنوات تقاعده يكتب تاريخاً جديداً للفلسفة، ولم يخل أي عمل من أعماله من فحص دقيق لمقولات الفلاسفة والمنظرين. ولكن يحدث بعد كل ذلك أن يبني موقفاً على مغالطة سهلة التفنيد.
تسمح هذه المواقف بإشارات سريعة نرى أوضح من خلالها هؤلاء المفكرين الكبار. في لحظة، تنطفئ الهالة التي ترافقهم، قبل أن تعود كما كانت. وبعد هذه الإشارات، لا ينبغي التعامل مع هؤلاء إلا ونحن على دراية بأن وراء معمار النظريات عقلاً يقف ضدّ قضايانا العادلة، عقلاً يسمح بانتزاع الحقوق وبالقتل والتهجير. موقف كالذي اتخذه هابرماس من قضية فلسطين، ما هو إلا مناسبة للتدرّب على طرق قراءة جديدة في الثقافة العربية، حيث نحن منهمكون في قراءة النصوص أكثر من اللزوم، أو لعلنا في كثير من الأحيان لا نفعل غير ذلك، على حساب مهمات أخرى، في النقد والتنظير والتأريخ...
يوقظنا موقف هابرماس من التنويم الذي يفرضه المفكرون الكبار، من سقراط إلى أيامنا. توقظنا أخطاؤهم بأن التتلمذ لا يمكن أن يستمر طويلاً، وأن هذه العلاقة المدرسية بالثقافة الغربية ما هي إلا تسليم بفرضيات تجعل منا في نهاية الطريق خرفاناً تقادُ إلى المسلخ. ولا ينبغي أيضاً أن نتعامل مع موقف هابرماس من منطلقات انفعالية بحيث نضرب حجاباً على مجمل فكره، ونبقى عمياناً في العالم. على الأقل، فلنفهم ما الذي يجعل عقلاً بهذه العدة المعرفية والكفاءات الإبداعية غير قادر على التمييز؟ ولو لم يُعلن موقفه بهذه الصراحة الفجة، هل سيغيّر ذلك في الأمر شيئاً؟
عقلُ هابرماس مُحتلٌ. من هناك مرت الرواية الصهيونية فسحقت فيه الحس السليم وسوّته بالأرض، كما تمرّ بالجرافات على عقول كثيرة في الغرب، وحتى في ثقافتنا
لقد وجد هابرماس الوقت كي يتجاوز انتماءه الأول للشبيبة النازية، وغفر له العالم ذلك واعترف به كواحد من أبرز عقول البشرية المعاصرة. لكن يصعب أن يجد هابرماس الوقت، في شيخوخته، ليعيد النظر في موقفه من إسرائيل. لماذا لم يفعل ذلك طوال عقود مضت؟ ما الذي شغله وهو المنهمك في تأمل التاريخ السياسي؟ ثم، هل كان سيتخلّى عن اعتناق النازية لولا سقوطها؟ لكأن هابرماس ما يزال مراهقاً وهو شيخ يدنو من المائة عام.
في عقل هابرماس، على الأرجح، فلسطين "أرض بلا شعب"، كما قالت الدعاية الصهيونية الأولى. وأن تاريخ "الحرب بين فلسطين وإسرائيل" قد بدأ في السابع من أكتوبر 2023، كما تقول دعاية الأيام الأخيرة. عقل هابرماس بهذا المعنى مغلق دون أي رواية مضادة. كيف أُغلق عقل هابرماس يا ترى؟
هناك كتاب بعنوان "إغلاق عقل المسلم"، وقف فيه مؤلفه روبرت رايلي عمّا حدث في الحضارة العربية الإسلامية من حضور لعناصر الفكر العقلاني وازدهاره ثم انطفائه والدخول في ركود تاريخي طويل. تقريباً هي نفس المفارقة التي نقف أمامها عند هابرماس: هذا العقل الألمعي مُغلق!
حين سئل أحد القادة المؤسسين لدولة الاحتلال عن حدود إسرائيل، قال إنها "أبعد نقطة يصلها الجندي الإسرائيلي". ومن خلال بيان بسيط، اكتشفنا أن العقل الجبّار لهابرماس يدخل ضمن مساحة إسرائيل. عقلُ هابرماس مُحتلٌ. من هناك مرت الرواية الصهيونية فسحقت فيه الحس السليم وسوّته بالأرض، كما تمرّ بالجرافات على عقول كثيرة في الغرب، وحتى في ثقافتنا.
هل أصبح هابرماس صهيونياً بمناسبة الحرب هذه الأيام؟ لا يبدو الأمر كذلك، فالفيلسوف الألماني يصدر دائماً من منطلقات إقصائية طالما انتقد حولها. لا تحتفي أعماله إلا بأوروبا، وجهاز القيم الذي ابتكره ويقيس به الأمور لا يخرج عن مجالها الجغرافي.
في أحد أبرز أعماله، ينهمك في أركيولوجيا الفضاء العمومي، فيجعله حكراً على أوروبا البرجوازية وحدها، ويمتد به التنظير في سياقات أخرى فلا يرى إنتاج المعرفة إلا في السياق الغربي، ويرى أن هناك حريات لكنها لا تنفع إلا للبرجوازية، وهناك ديمقراطية ولكنها لا تصلح إلا في أوروبا.
نحنُ أصلاً مقصيون من عالم هابرماس الفكري. لا نكون فيه إلا قراء وتلاميذ. نحن العرب وكل من هو خارج أوروبا وامتداداتها، كان من البداية غير مرئي لدى هابرماس. نحن وقضايانا وضحايانا
بشكل ما، ما يزال هابرماس في "عصر الأنوار" حيث لا يمكن لأي كان أن يكون طرفاً في "النقاش العمومي". وبهذا المنطق نحنُ أصلاً مقصيون من عالم هابرماس الفكري. لا نكون فيه إلا قراء وتلاميذ. نحن العرب وكل من هو خارج أوروبا وامتداداتها، كان من البداية غير مرئي لدى هابرماس. نحن وقضايانا وضحايانا. لذا فإن الفيلسوف الألماني متضامن مع المعتدين بضمير مرتاح، كيف لا وهو يصدر من فرضية فاسدة تضع البعض في مقام أعلى من البعض الآخر، وبناء عليه فمن بديهي الأمور أن تسيطر إسرائيل على العرب، تماما كما أنه من البديهي أن يسيطر أي إنسان على محيطه الطبيعي.
تؤسس هذه النظرة طيفاً واسعاً من التبريرات، بأن تعطي القويّ شرعية العدوان. هناك نوع من تبرير أكل اللحم البشري في فكر هابرماس، ولقد سبق أن أشار الأنثروبولوجي التونسي منذر كيلاني في أحد أبحاثه أن "أكلة اللحم البشري" أسطورة أسقطها الأوروبيون على السكّان الأصليين، فيما كانوا هم الأكلة الحقيقيين للحم البشري من خلال سلب الأرض والهوية وأعمال القتل والتهجير. حدث ذلك غير بعيد عن عصر التنوير الذي يقدّسه المفكر الألماني، ويحدث في أيامنا مع جيش الاحتلال اإسرائيلي الذي يدعو للتضامن معه.
لا يبدو أن هابرماس مُقدم على مراجعة لمواقفه، ولذا سنبقى غير مرئيين لديه، ومن ورائنا كل حجة يمكن رفعها ضدّ منطقه. مشكلة هابرماس بالتالي تواصلية قبل كل شيء. بمفرادته هناك خلل في "الفعل التواصليّ" يمنعه من الوصول إلى ما في الواقع من حقائق.
ربما، لم يُخترع الصنم الهابرماسي إلا ليفتن الناس، ويمنعهم أن يروا العالم بأعينهم. لم تُخترع هذه الأصنام الفكرية إلا لكي لا نفكّر أبداً. كي نظل قراء. مجرّد قراء. ولكي نتسمَّر حينما يتحدّثون، وألا نفكّر حين يفكّرون، وألا نرى الواقع بعدهم حين يحبّون تزييفه. فإذا تضامنوا مع الجلاد كنا لهم تبعاً. أن نتتلمذ عن هؤلاء يعني أن نرى كل شيء بعيون صهيونية في المستقبل.