نقد العقل الرومنطيقيّ

نقد العقل الرومنطيقيّ

02 يونيو 2023
+ الخط -

بعد أن أخذ على عاتقه في كتابه الأخير "الانهيار المديد"، التوثيق للخلفية التاريخية التي اندلعت على أثرها انتفاضات الربيع العربي؛ آثر الكاتب حازم صاغيّة، في كتابه الأحدث صيف 2021، أن يقوم بجردة حساب طويلة، دقيقة، وقاسية، لمُجمل الأفكار والمعتقدات السياسية والثقافية والفكرية، التي ضجّ بها المشرق العربي (بين العراق ومصر)، والتي يعود انبعاثها إلى عصر التنظيمات والإصلاحات العثمانية، قبل أن تشتدّ لاحقاً مع انهيار السلطنة، وما جرّته من اضطرابات وتفسّخات، ما فتئت تتوالى.

ومن العنوان، يتبدّى حكم الكاتب على أصحاب هذه المسيرة الطويلة من الأفكار والتصوّرات الحالمة والمؤلمة: إنهم "رومنطيقيون". أما صاحب العمل، فهو الصحافي اللبناني المخضرم حازم صاغيّة، الذي أسهم بإثراء المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات التي تشترك في نسقٍ واحد: التحفيز على التفكير، بالخروج عن القوالب الذهنية، التي نتعقّل من خلالها صورتنا عن ذاتنا والعالم. وعلى هذا النمط تأتي كتاباته الصحافية، التي لا تكتفي بالتعليق على الوقائع، وإنما تمتاز بعمق التحليل وربط الجزئيات بالكلّيات.

يبدأ الكاتب سِفره بتنويه مهم، يوّضح فيه مراده: "[هذه الصفحات] لا تقول إنّ "كل" الفكر والإبداع السياسييْن العربييْن من صِنف رومنطيقيّ، وطبعا لا تقول إنّ "كل" النِتاج الرومنطيقيّ، ولا سيّما في الفن والأدب، مُدان أو رجعيّ أو متخلّف. شيء آخر لا يقوله نقدها للرومنطيقيّة، هو تمجيد المبالغة في التجريد العقلاني، أو محو كلّ أثر خاص في تجربة بعينها، ومن ثم نزع بعض ما هو إنساني وحميم في حياتنا، وبالتالي تحكيم العنف "العقلاني" الذي يُناط به "تصويب" الخطأ في العلاقات الاجتماعية وفي السياسة ... مع ذلك تقول هذه الصفحات إنّ أحد التيارات القوية في الفكر والإبداع السياسييْن المشرقييْن، رومنطيقيّ متطرف ومتصلّب، وإن هذا التيار أكثر تيارات هذين الفكر والإبداع نفوذاً وتأثيراً، من غير أن يُنتج تلك الأعمال الباهرة التي سجّلتها الرومنطيقية الأوروبية. فـ"الإنكار" بوصفه رفضا للاعتراف بواقعية ما هو واقع، يحتل موقع القلب من هذا التيار، وكلما صُفعنا بالواقع كما هو، وكلما كانت الصفعة مؤلمة، تصاعَد الإنكار ليغدو هذيانا".

هذا عن المنهج، ولكن ما هي الرومنطيقية المقصودة هنا إذن؟

يعترف الكاتب بصعوبة القبض على تعريف دقيق لها، وبالتالي بناء تحليل عليه. لكنّ المؤكد أنّ منابعها أوروبية، وفي القرن التاسع عشر تحديداً، حيث جاءت كردّ فعل على عقلانيّة القرن الذي سبقه.

هذا الردّ، تضمّن سِمات جمعت بين كلّ الرومنطيقيّات اللاحقة، على اختلاف جغرافيّاتها ومصادر وعيها وبواعث نشأتها وظروفها التاريخية، ما "أحدث نظاما في النظر والتأويل، جرى بموجبه تغليب الأصليّ والطبيعيّ الذي يكون متوهَّما، على المصنوع، وتغليب العاطفة على العقل، والثابت الماهويّ افتراضاً، على المتحوّل، والقرية على المدينة، والوحدة على التعدّد، والجذور على الآفاق، القرية، الطبيعة، الأرض، الوحدة، القوة (والجيش)، الأمة، البطل، الذات ومبادرتها، بدل العقل والعلم والعالَم. لا بل تمجيد الذات، ولو في بعض الأحيان عبر توكيد معاناتها ومظلوميتها واستعداداها للفَناء "لو لم تكن عظيمة لما ظُلمت أو تعرّضت للتآمر".

كتاب "رومنطيقيّو المشرق العربي" من الأعمال التأسيسية بالغة الأهمية لتأريخ أصول الثقافة العربية، وإدراك كيفية اشتغالها، والنزعات التي تصدر عنها وتُصدّرها في آن

هذه وَحَدات الوعي الرومنطيقيّ المقصودة في الكتاب، التي تقف بالتضاد مع التنوير والرأسمالية ووحَدات وعيهما: الفرد الصانع لذاته، الحداثة، الكونية، العلم، المدينة، الديمقراطية، التجربة والتجريب... إلخ. ومثلما كان التنوير والرأسمالية الشيطان الذي استهدفته الرومنطيقيّة في تجربتها الأوروبية، كان "الغرب" ذلك الشيطان في تجربتنا العربية، أو أقلّه في المشرق الذي تتناوله هذ الصفحات".

وبعد تحديد المُراد ونفي التوّهمات، يشرع الكاتب منذ ثاني الفصول، في تقصّي مسيرة الفكر العربي، الذي سنراه متخَماً بالرومنطيقيّة على اختلاف تلاوينها وتمظهراتها. فخلال 10 فصول (من غير احتساب الأول) تمتد رحلة البحث عن بدايات نشوء الوعي الرومنطيقيّ، منذ نهايات الدولة العثمانية بإصلاحاتها وتنظيماتها وحروبها، وصولاً إلى انهيارها وتأسيس الجمهورية التركية على أنقاضها. ثم الصراع على الزعامة المشرقية التي ورثت الوعي الرومنطيقيّ الألماني من العثمانيين. بعد ذلك، يأتي استعراض مآلات القضية الفلسطينية، التي تتجلّى فيها، وعلى نحو صاخب وعدميّ، أعلى مستويات الهذيان الرومنطيقيّ.

وبما أنّ إسلاميي السنة والشيعة كانت لهم إسهاماتهم المؤثّرة في رفد الرومنطيقية بالبُعد المقدّس، فقد أُفرد لكلّ منهما فصل خاص به. الأولون مُمثّلون في سيّد قطب، والآخِرون في روح الله الخُميني.

ثم يأتي دور الماركسيين والشيوعيين، الذين سبغوا نظرتهم للواقع بأوهام العلميّة، والصراعات الطبقيّة الحتميّة، مع اصطناع الكُره للإمبريالية الرأسمالية، دون أن يكون للأخيرة وجود حقيقيّ في مجتمعاتهم.

وفي مسألة الحداثة، يحضر حداثيو الأدب الرافضين للحداثة (أدونيس كمثال فاقع). ثم يأتي ما يصفه الكاتب بـ"جائحة نقد الاستشراق"، التي بدأها إدوارد سعيد بشيء من الاضطراب والمغالطات، لتصل إلى وائل حلاق، الذي أخذ على عاتقه "تنقية" ما شاب الأطروحة من "براءة". فوقفة مطوّلة وجريئة مع مفهوم الطائفية وأنماط تشكلاتها ووظائفها وتداخلاتها، كما صاغها بعض الكُتاب (عزمي بشارة، أسامة مقدسي، ميشال سورا) وغيرهم. ثم الختام مع "إغلاق الدائرة"، حيث هزيمة الثورات العربية، بالتزامن مع الانفجار الذي وصلت إليه الرومنطيقيّة العدميّة، في رفضها للعالم: داعش.

يدعو صاغيّة في كتابه "رومنطيقيّو المشرق العربي" إلى الدفاع "عن التطابق مع الواقع ومع العالم، والربط بين تغيّرهما باتجاه أكثر ديمقراطية وحداثة وتقدّما وعدالة".

والقارئ المواظب على القراءة لصاغيّة، لا يُفاجأ بجرأته على نهش كثير من المحرّمات، وتحطيمه معظمَ (إن لم يكن لكلّ) الأيقونات الفكرية في السياسة والثقافة العربيتين. ولا يَعجب من سعة اطلاعه وجَلَده البحثي، وتنبيهاته واستدراكاته الدقيقة في المتن والهامش، إلى جانب مَلَكته اللغوية العالية، التي أضافت لرصانة البحث بُعدا أدبياِ جذّابا، يوظّف، بمهارة، السرد البليغ في التنقل عبر محطات الأفكار وتواريخ الأحداث.

كذلك يمكن اعتبار الكتاب، إلى جانب كتاب الراحل جورج طرابيشي (المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعُصاب جماعي) من الأعمال التأسيسية بالغة الأهمية لتأريخ أصول الثقافة العربية، وإدراك كيفية اشتغالها، والنزعات التي تصدر عنها وتُصدّرها في آن.

وعلاوة على المنهجية النقدية اللاذعة، يدعو صاغيّة هنا إلى الدفاع "عن التطابق مع الواقع ومع العالم، والربط بين تغيّرهما باتجاه أكثر ديمقراطية وحداثة وتقدّما وعدالة، بالإمكانات التي يوّفرهما هذان الواقع والعالم".

وفي نهاية الجرد الطويل، أتى الختام بجملة مكثّفة ذات وقع دراميّ: "يمكن القول إنّ "داعش" ومُشابهيه (قوميون وماركسيون وإسلاميون وما بعد حداثيين) قد أغلقوا الدائرة الرومنطيقيّة على سكان المشرق العربيّ إغلاقا مصبوغا بعنف كثير وابتذال أكثر. أما أن تنكسر هذه الدائرة في وقت ما، في مكان ما، فأوّل شروطه أن ترحل الأنظمة السياسية، وتصطحب معها عدداً هائلاً من الأفكار والقناعات والولاءات التي تحكّمت طويلا بأهل هذه المنطقة".