ليبيا... الموت القادم إلى الشرق

05 أكتوبر 2023
+ الخط -

مع دفق الأخبار المفجعة القادمة من ليبيا منذ منتصف هذا الشهر (أيلول/ سبتمبر)، وتغيّر الإحصائيات بشكل يومي، بحيث يصعب بلورة صورة مكتملة عن الوضع؛ لن تكون هذا المقالة أكثر من مجرّد "هوامش على دفتر النكبة"، مع الاعتذار لنزار قبّاني.

إعصار دانيال

أطلقت وكالة الأرصاد الجويّة الأميركية اسم "دانيال" على العاصفة التي ضربت منطقة البحر الأبيض المتوسط ضمن موسم أعاصير المحيط الأطلسي لعام 2023. في البداية، صُنّف إعصار "دانيال" بأنّه عاصفة استوائية عادية، لكنه سرعان ما تحوّل إلى إعصار عنيف، بسبب تنامي سرعة رياحه العاتية. يُذكر أنّ المنظمة العالمية للأرصاد هي التي تقترح أسماء الأعاصير في مناطق معينة، قبل أن تتوافق الهيئات الإقليمية المعنية على التسمية.

قدّرت المنظمة العالمية للأرصاد ضحايا "دانيال" ممن تضرّروا بشكل مباشر بحوالي 884 ألف شخص. وصلت الحصيلة إلى هذا العدد بسبب ما حدث في ليبيا لاحقاً. أما البدايات، فكانت مشاهد صادمة لفيضانات تعرّضت لها بعض مدن تركيا واليونان.

بالنسبة إلى ليبيا، توّلت مهمة التحذير من "دانيال" منظمات ومؤسسات تُعنى بشؤون المناخ والرصد الفلكي. حذّرت هذه المنظمات من النسبة العالية المتوقعة لسقوط الأمطار، ودعت الناس إلى توخّي الحذر وأخذ الاحتياطات اللازمة للخروج من المحنة بأقلّ الأضرار.

بالطبع، ظرف كهذا لا يوكَل فقط إلى منظمات وهيئات غير حكومية، بل يجب أن تكرّس الدولة مواردها وقوّتها الإكراهية لإجبار الناس على اتخاذ تدابير من أجل حمايتهم، ولو أدى ذلك إلى إخراجهم من مناطقهم وإيوائهم في أماكن أكثر أمناً.

سرعان ما بدأت الأرقام المتضاربة بالظهور، والتي قُوبلت بنفي متبادل من قبل إعلام الحكومتين، في استمرار واضح للتخبّط والفشل

لكن من المعروف عن ليبيا منذ نحو عقد أنّها دولة فاشلة، تتقاسمها حكومتان، دون تنسيق من أيّ نوع، مع وضعية حربية ساخنة/باردة، وتبذيرٍ لموارد البلاد بفساد قلّ نظيره في العالم.

هكذا والحال كذلك، جاء "دانيال" مستهدفا الأراضي الليبية، في جزئها الشرقي تحديداً، شاملاً مدن بنغازي والمرج وشحات وسوسة ودرنة والبيضاء، وكثيراً من قرى الجبل الأخضر.

أرقـام

كما هي عادة وسائط التواصل الاجتماعي، امتزجت لحظات ترقّب الإعصار بشيء من الحذر والفكاهة. ربما يرجع هذا إلى أنّ ليبيا في تاريخها القريب والبعيد لم تتعرّض لكارثة طبيعية كبرى من أيّ نوع، فحتى زلزال مدينة المرج سنة 1963 الذي ما زال حاضراً في الذاكرة الشعبية، لا يمكن اعتباره حدثاً صادماً، بالمقارنة مع حوادث مشابهة في العالم.

بدأت العاصفة يوم 10 سبتمبر/أيلول، وقد وصل معدّل هطول الأمطار في أقل من 24 ساعة إلى 400 ملم، مقارنة مع 1.5 ملم في المتوسط، وهي أكبر كميّة تشهدها البلاد منذ نحو 40 عاما. تناقلت المنصّات المحلية مَشاهد العاصفة، وغَرقَ كثيرٍ من الشوارع والأحياء والطرق، لكن في فجر يوم 11 سبتمبر/أيلول، تكشّفت فاجعة غير مسبوقة.

 جرفت السيول عديد المدن والقرى، والتي قالت البيانات الحكومية لاحقاً إنها فضلاً عن وقوع ضحايا من الغرقى، تسبّبت بنزوح مئات العائلات وانقطاع المياه والاتصالات عن مناطق جنوب الجبل الأخضر، إضافة لنفوق حوالي 40% من الثروة الحيوانية ببلدية البيضاء، وتدمير عدد من القرى الصغيرة التي تقع في مجرى الأودية، ما جعلها مناطق غير صالحة للعيش.

درنـة

لكن البقعة التي استحوذت على الأنظار كافة كانت مدينة درنة. فهول الكارثة بها لم يكن بسبب السيول التي أحدثتها العواصف فحسب، وإنما بسبب انهيار سدّين يقع أحدهما على مقربة من وسط المدينة.

درنة مدينة تقع على وادٍ يُسمّى باسمها، ويقسِمها إلى شطرين، شرقي وغربي. ووادي درنة هو مصبّ لما يُعرَف بحوض درنة، الذي يمتد لحوالي 40 كيلومترا، تجري فيه المياه المنحدرة من الجبل الأخضر.

كان يمكن تقليص آثار الكارثة لولا إهمال المعنيين وغياب الإمكانيات المادية والبشرية، في واحدة من أغنى دول العالم وأكثرها شباباً وتعليماً..

يوجد في درنة سدّان، "سد البلاد" الذي يبعد عن المدينة كيلومترا واحدا، وسد "أبو منصور"، الذي يبعد 13 كيلومترا عن مركز المدينة. بُني السدّان في سبعينيات القرن الماضي، وآخر صيانة لهما ترجع، بحسب بعض التقارير، إلى سنة 2007. القدرة التخزينية للسدين تقدّر بحوالي 24 مترا مكعّبا، وتبلغ مساحة خزانهما الطبيعي المتشكّل في الأودية 575 كم2، أما معدّل المياه المتجمّعة في السدّين فبلغت أكثر من 110 ملايين متر مكعّب، ما تسبّب في موجة تسونامي تجاوز ارتفاعها 30 مترا. وقد تعرّضت المدينة عبر المائة عام الماضية إلى موجات من الفيضانات بالوادي، أعوام 1941، 1955، 1968، 1982، 1986، 2011. 

المفارقة المحزنة أنّ "بيت درنة الثقافي" كان قد دعا يوم 6 سبتمبر/ أيلول، أي قبل أربعة أيام فقط من "دانيال"، إلى ندوة حول وادي درنة، ومخاطر الإهمال التي تتعرّض له مرافق المدينة، خصوصاً احتمالات انهيار أحد السدّين، وقد كُشف لاحقاً عن مخاطبات ومراسلات قام بها مختصّون حول أوضاع السدّين، دون أن تجد اكتراثاً من الجهات المعنية.

تداعيـات

مع التناقل السريع للمشاهد المفزعة من الشرق، خصوصاً درنة، هبّ كثير من المنظمات والمؤسسات والأفراد المتطوّعين إلى إغاثة المتضرّرين. أُطلق على الحملة باللهجة الدارجة "فَزعة خوت"، وهي تسمية إن دلّت على تضامن الليبيين على امتداد الجغرافيا الليبية، إلا أنها كذلك بيّنت عن شعورهم بالخذلان من حكومتيهم، وإدراكهم التام لعجزهما وفسادهما وسوء إدارتهما للأزمات، يتمثّل ذلك بعدم الاكتراث بتحذير الناس من الكارثة، ثمّ فشلهم في نقل صورة واضحة عمّا يجري، سواء للداخل الليبي، أو للخارج، الذي وتحت الشعور نفسه بالخذلان المديد، سرعان ما اتُهم بالتقاعس وعدم المبالاة.

لكن لم تمضِ أيام قلائل حتى هرعت كثير من فرق الإنقاذ الدولية للمساعدة في لجم أضرار الكارثة، بإنقاذ العالقين والتعرّف إلى الغرقى والمفقودين. وسرعان ما بدأت الأرقام المتضاربة بالظهور، والتي قُوبلت بنفي متبادل من قبل إعلام الحكومتين، في استمرار واضح للتخبّط والفشل. 

في كل هذه الكوارث، يلوذ البائسون بإيمانهم الديني، مستسلمين للأقدار، دون أن يمنعهم ذلك من لعن حكوماتهم والقائمين بأمرهم

لكنّ المنظمات العالمية تولّت إخراج الإحصاءات والتقارير الدورية، ومن آخر هذه الأرقام ما نشرته منظمة الصحة العالمية عن انتشال 4000 جثة من داخل درنة، مع أكثر من 9000 مفقود. أمّا الأمم المتحدة فقالت إنّ 10000 شخص ما زالوا مفقودين، وقدّرت المنظمة الدولية للهجرة نازحي المناطق المنكوبة بأكثر من 38000، كان نصيب درنة وحدها 30000. هذا فضلا عن المخاوف من انتشار الأمراض المتعلّقة بالأوبئة وتلوّث المياه.

خاتمة مؤقتة

أثناء كتابة هذه الكلمات يعيش العراق على وقع حريق التهمَ المئات في قاعة أفراح، ومع بدء فيضانات ليبيا، كانت أنظار العالم معلّقة بزلزال المغرب. في كل هذه الكوارث، يلوذ البائسون بإيمانهم الديني، مستسلمين للأقدار، دون أن يمنعهم ذلك من لعن حكوماتهم والقائمين بأمرهم، الذين لطالما رخّصوا حيواتهم وانتهكوها. فها هي الأمم المتحدة تصدر تقريراً بعد أيام من انتهاء عمل فرقها بليبيا، خلُص إلى أنه كان يمكن تقليص آثار الكارثة، لولا إهمال المعنيين، وغياب الإمكانيات المادية والبشرية، في واحدة من أغنى دول العالم، وأكثرها شبابا وتعليما.. نظريا على الأقل.

إذن هي أهوالٌ، ظاهرها غضب الطبيعة، أما باطنها فيفضح احتقارا وعجزا صارخيْن، لمنظومات حكم وإدارة متهالكة إلى حد التفسّخ، كان لا بدّ من اقتلاعها قبل أن تتسبّب هي في اقتلاع مصائر وأحلام ملايين البشر، كان ذنبهم الوحيد وجودهم في المكان الخاطئ من الجغرافيا.. السياسية.