نخشى النظر إليك
قرأت رسالتك بإيعاز تحريري. حاولت تجنّبها لأنّ العنوان يشي بنوعٍ جديدٍ من الألم الذي ينتقل عند القراءة، لكنّني لم أستطع. "رسالة مؤثرة من كريم يونس".. لا داعي لأن أبحث عن اسمك لأجد خلفية للتقرير، فأنت عميد الأسرى الذي مضى على اعتقاله أربعة عقود في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
أربعون عاماً بعيداً عن الشمس، وهي السنوات ذاتها التي ألبستنا ثوب الخذلان. يوّجه صاحب تعهّد "سأغادر زنزانتي"، قبل أيام من الحرية، التحية لنا، معلناً عن أمنيته بالترديد معنا نشيد "فدائي"، متخيّلاً استقبالاً يعبّر عن نصرٍ وإنجازٍ كبيرين.
ثم يتحدث عن رهبة تجتاحه باقتراب عالم لا يشبه عالمه، مصرّاً في الوقت ذاته على أن يمرّ على قديم جروحه، وقديم ذكرياته.
أصل إلى هذه الجملة وأغرق في ذنبي، كمن قُبض عليه في جريمة، ولحظة المواجهة حلّت. أقول في نفسي، وقد توقفت عن التحرير، هل يقصدني؟ أم لعله يقصد أبي وأمي، أو ربما جدي وجدتي، وهو الذي اعتقل قبل ولادتي بأعوام؟
أتراه سيذكرنا بأننا نسيناه، أتراه يقول: لماذا لم يخرج الشتات عن بكرة أبيه ليحرّرني؟ أو ربما يجد مبرّرات تلو مبرّرات، أو ربما لم يقصدنا بجروحه نحن. ربما قصد والدته ووالده قبل أن يفارقا الحياة، ربما قصد خذلاننا لهما، نحن الذين نسينا أنّ للأسرى عائلات، أتراه جاء اليوم لنكون عائلته؟
أمضى كريم يونس في سجون الاحتلال الإسرائيلي أكثر من نصف عمر النكبة الفلسطينية
أمرّ على مقطع آخر من رسالته يقول: "لحظة أستطيع فيها أن أبتسم في وجه صورتي القديمة، من دون أن أشعر بالندم أو الخذلان، ومن دون أن أضطر لأنّ أبرهنَ البديهيّ الذي عشتهُ وعايشته على مدار 40 عاماً، علّني أستطيع أن أتأقلمَ مع مرآتي الجديدة".
تُسائلني نفسي كيف لي أن أحرّر هذا المقطع، كيف لي أن أعيد صياغة جملة لأسير يتحدث عن شعوره بالندم لأنه سيغادر من دون رفاقه. الموقف جلّل. يتجلّى المشهد وكأنك تجلد روحك بلا سوط.
كيف لي أن أقف على مسافة صفر، من دون أن أبكيه وأبكي حالنا، كيف لي أن أمرّر مادة ناشفة، من دون دموع لأسير اعتقل في عام 1983 وسينال حريته في عام 2023؟
كيف لي أن أتخيّل أنّ كريم يونس أمضى في سجون الاحتلال أكثر من نصف عمر النكبة الفلسطينية التي ستكمل عامها الـ75 في مايو/ أيار القادم؟ وكيف للفلسطينيين أن يقنعوا يونس بأنهم ما زالوا يحملون راية تحرير الأسرى على أكتافهم من دون أن يستطيعوا فكّ أسره الذي امتدّ لأربعين عاماً؟
أسئلة صعبة وكثيرة لا حصر لها تدور في خلدي، لكن أهمها أننا لم نستطع، نحن الفلسطينيين، لا عبر خيار المفاوضات مع الاحتلال ولا عبر خيار المقاومة الشعبية والمقاومة المسلحة، أن نفك أسر معتقل أمضى أربعين عاماً في الأسر، وخرج بعد انتهاء محكوميته. فكيف عسانا ننظر إليك؟