من قتل المشير أحمد بدوي؟ (1 من 3)
هل نحن قدّ مسؤولية فتح ملفات الأحداث الغامضة في تاريخنا؟ ليتنا نكون ذلك، فهي مهمة ليس سهلة، كما قد يظن البعض، خاصة في ظل تاريخ ـ وواقع أيضاً ـ مليء بالغموض والألغاز والتعتيم و"التكتيم"، خاصة أنّ فتح تلك الملفات لن يكون مجرد وسيلة للإلهاء الشعبي والتخدير الجماعي كما يزعم البعض، بالعكس سيساعد ذلك على فتح جراح كثيرة لتطهيرها بعد أن أغلقت دون تطهير، وستتضح لنا عندها حقائق كثيرة عن الذين حكموا البلد متعاملين معها على أنها "عزبة"، يقتلون فيها من أرادوا ويبقون على حياة من أرادوا، وما دمنا قد فتحنا وبقوة ملف المشير المهزوم عبد الحكيم عامر لنسأل: هل انتحر أم نحروه؟ أليس من الأولى أن نفتح ملف قتل مشير منتصر كان بطلاً من أبطال حرب أكتوبر ووصل إلى منصب وزير الدفاع ثم فجأة فقد حياته في ظروف غامضة؟
يركب الرجل طائرة مع عدد من القيادات العسكرية "لا يمكن السماح لهم بالركوب معاً في طائرة واحدة حتى في جيش سيراليون وجيش موزمبيق"، طبقاً لتعبير كاتب صحافي كبير عاصر ما حدث وطلب منا عدم ذكر اسمه لأنه يعرف حساسية فتح هذا الملف. يموت كل هؤلاء القادة لأن الطائرة ارتطمت بعمود نور (!) طبقاً للبيانات الرسمية، بينما يؤكد شهود عيان أن الطائرة انفجرت فعلا قبل ارتطامها بالعمود. والدة أحد ضحايا الحادث قالت لـنا باستسلام أم مكسورة القلب: "ربنا يعوض علينا ويا رب يصحى ضمير حد من الشهود ويقول الحقيقة".
بعد حادث انفجار الطائرة بفترة، تصدر أوامر غامضة بغلق ملف التحقيق في جريمة قتل قائد الطائرة على يد "حرامي" بعد أن نجا من حادث الانفجار، كما يروى لنا اللواء كمال حافظ- ضابط الشرطة سابقاً. أسماء عبود الزمر وأنور السادات وعلوي حافظ وتجار سلاح وقادة أمريكان تتردد في تفاصيل الأحداث وتزيدها غموضاً وترفع من أسهم أهمية فتح ملف موت المشير أحمد بدوي حتى لا يذهب دمه هو ورفاقه هدراً، وما دمنا راغبين في معرفة كل الحقائق، ولذلك نحن نفتح معكم ملف اغتيال أحمد بدوي.
في يوم 2 مارس/آذار 1981 أعلن رسمياً عن "وفاة" المشير أحمد بدوي و13 قائداً من قادة الجيش المصري، من بينهم 9 لواءات عند عودتهم من مهمة استكشافية بمنطقة سيوة، الأجهزة الرسمية أعلنت أن الحادث كان قضاءً وقدراً ولا حول ولا قوة إلا بالله وخالص التعازي من السيد الرئيس لأسر الضحايا، وإذاعة دمشق تؤكد أن الحادث من تدبير السادات خوفاً من انقلاب المشير أحمد بدوي عليه بعد تصاعد خلافاتهما بسبب الصلح مع إسرائيل وتفكير السادات في توجيه ضربة عسكرية لليبيا، والسادات يرد على إذاعة دمشق قائلاً: "ليست هذه أساليبنا في حل الخلافات"، لكن البعض داخل الجيش المصري لا يصدق ما قاله السادات ويبدأ في التفكير للانتقام لأحمد بدوي، وبعد أن يحدث ذلك الانتقام بعدها بأشهر في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1981 ويتم اغتيال السادات في حادث المنصة، يؤكد الرقيب عطا طايل حميدة أحد الذين نفذوا عملية اغتيال السادات في أقواله أمام جهات التحقيق وفي جلسات المحكمة أن اغتيال أحمد بدوي كان السبب الرئيسي وراء تفكيره هو وزملائه في اغتيال السادات، وتكون تلك المرة الأولى التي يقفز فيها اسم أحمد بدوي وما حدث له إلى سطح الأحداث ليصبح اغتيال السادات وكأنه قصاص لما حدث لأحمد بدوي، على الأقل من وجهة نظر أحد من اغتالوه.
بعد ذلك بسنوات يأتي الكاتب الصحفي محمود فوزي ليفتح ملف قضية أحمد بدوي التي ظلت في دائرة النسيان لسنوات طويلة، ويكتب كتاباً مهماً يجمع فيه روايات شهود الواقعة وأقوال أقارب أحمد بدوي، إلا أن الكتاب قوبل بتجاهل رسمي نتمنى أن يزول الآن بعد أن نطالب بفتح ملف الحادث، وبعد أن نقرأ سوياً ما أورده محمود فوزي في كتابه الخطير عن الحادث.
تعالوا أولاً نتأمل الرواية الرسمية للحادث التي ترد في التحقيقات على لسان عميد أركان حرب صلاح الدين سليمان قائد قطاع سيوة العسكري الذى كان متواجداً في مكان الحادث، وهو يروي أنه بعد تحرك الطائرة مسافة حوالي 30 متراً، ارتفعت إلى حوالي 5 أمتار، وفجأة اصطدمت مروحة ذيلها بأحد الأسلاك الكهربائية، التي لا تدري من أين ظهر فجأة، ليتطاير ريش المروحة ويختل توازن الطائرة، كأن طفلاً أو هاوياً كان يقودها وليس طياراً عسكرياً محترفاً، وتندفع نحو عمود كهرباء حديدي لتصطدم به وتنفجر كتلة مشتعلة من النيران، لأن الطائرة كان بها حوالى آلفي لتر بنزين (1.6 طن بنزين بالتحديد)، وتسقط الطائرة المحترقة على الأرض وتحترق بداخلها جثث أحمد بدوي وزملائه الذين واجهوا أهوال حرب أكتوبر ولم يستطيعوا مواجهة مفاجأة الاحتراق العبثي للطائرة، بينما يتمكن طاقم الطائرة المكون من 4 أفراد من كسر الزجاج الأمامي لكابينة الطائرة والقفز منها إلى الأرض، وينجو معهم سكرتير أحمد بدوي الذي قفز من الطائرة قبل اشتعالها.
بعد أن تم انتشال جثة أحمد بدوي من حطام الطائرة والذهاب بها إلى مستشفى تابع للقوات المسلحة أخذ سكرتيره كما نشرت الصحف يحتضن الجثة المحترقة لأكثر من ساعة ويبكي في هيستيريا، وبعد أن دارت الأيام وتم تعيينه ملحقاً عسكرياً في فرنسا، نقرأ شهادته عن الحادث فنجد أنه يروي أنه بينما كان باقي القادة المرافقين لأحمد بدوي قد استقلوا الطائرة، فإن أحمد بدوي ظل واقفاً خارج الطائرة يتحدث مع العميد محمد مازن الذى كان من المفروض أن يسافر إلى القاهرة في إجازة، لكن قدره جعل أحمد بدوي يطلب منه أن يركب الطائرة معه حتى ينتهيا من الحديث، وركب الاثنان بالفعل في الطائرة التي كانت تحمل معها شبح الموت الغادر الذى لم يحس أحد بوجوده، ربما لأن الشرفاء لا يشعرون بوجود من يستعد لطعنهم من الخلف.
جلس المشير بدوي على أول كرسي بجوار الباب، وهو مكانه المعتاد في الطائرة، وإلى جواره جلس اللواء أركان حرب على فايق صبور قائد المنطقة العسكرية التي جاء المشير أحمد بدوي لزيارتها، وخلفهما كان يجلس سكرتير أحمد بدوي الذي يقول: ".. بعد ذلك بفترة بسيطة سمعت اللواء صلاح قاسم الذي كان يجلس بجواري يقول: لي قوم يا حازم الطيارة مش مظبوطة، بعدها تمكنت أن أقفز من الطائرة حيث كان نصفها الخلفي قد انفصل عن النصف الأمامي ولم أشعر بنفسي إلا وأنا ملقى على الأرض ورجال القاعدة يحملونني"، إذا كان لديك تساؤلات كثيرة يمكن أن تؤجل كل تساؤلاتك الآن لأنك ستضم إليها قريباً المزيد من التساؤلات.
طيب، ماذا قال قائد الطائرة الذي نجا؟ ما هو دوره في الأمر؟ قائد الطائرة المقدم طيار سمير مغيث قال في شهادته الرسمية إن سبب الحادث هو القضاء والقدر وأنه ربما يكون طائر أو شيء من هذا القبيل قد دخل في المحرك وأدى إلى حدوث الخلل لكنه يضيف قائلاً: "أنا مش متأكد، وربما يكون السبب أيضاً في اختلال الطائرة هو تحرك القادة لحظة الإقلاع لكن على أي حال الموضوع قضاء وقدر". هكذا قال قائد الطائرة في شهادته، ويبدو أنه دفع فيما بعد ضريبة القضاء والقدر عندما تم قتله بشكل غامض، وانتظر حتى تقرأ ما قاله لنا اللواء كمال حافظ الذي تولى التحقيق في مقتله بعد ذلك لتتأكد من ذلك.
عبارة القضاء والقدر سيطرت على الموقف في تقرير اللجنة الفنية التي تولت التحقيق في الحادث في اليوم التالي لوقوعه فقد ذكر تقريرها أنّ الحادث لم يقع نتيجة أي أعمال تخريبية أو بفعل فاعل وليس هناك أي شبهة جنائية فلم يحدث عطل فنى في جزء من أجزاء الطائرة نتيجة أعمال تخريبية أو إهمال متعمد أو غير متعمد، ولكن الحادث كان نتيجة قضاء وقدر وخطأ تكتيكي من قائد الطائرة، لكن اللجنة لم تقل لمن انتظروا تقريرها بشغف: لماذا لم تحاسب قائد الطائرة على خطئه التكتيكي، ولماذا ظل حراً طليقاً حتى اصطادته رصاصات القضاء والقدر بعد ذلك؟
كان يمكن لكل شيء أن يمر في صمت وهدوء كالعادة، فشماعة القضاء والقدر جاهزة وطول عمرها تتحمل المسئولية، لكن أحمد بدوي نفسه هو الذى كان وراء إيقاف ذلك التواطؤ بالصمت، وهو الذى نبه الجميع إلى غموض ما حدث له أو بمعنى أصح ما سيحدث له، حدث ذلك خلال حواراته قبل مقتله مع صديقه نائب حزب الوفد الراحل علوي حافظ والذى كشف عن هذه الحوارات قبل وفاته للكاتب الصحافي محمود فوزي مؤكداً أن أنور السادات هو الذى دبر اغتيال المشير أحمد بدوي ورفاقه، قائلاً إنّ الأسباب التي دفعت السادات لذلك كانت كثيرة، ومؤكداً أن أحمد بدوي ذكرها لعلوي حافظ بنفسه قبل الحادث بأيام.
...
نكمل غداً بإذن الله.