من صيد الفيس بوك (4)

12 اغسطس 2021
+ الخط -

زميل دراستي الذي سأحدثك عنه سيساوي، لكنني أفضل وصفه بأنه "سيساوي حائر"، لأنه لا يمتلك المواصفات التي تدرجه تحت بند "سيساوي جسور"، وهي الفئة الأكثر شراسة وقابلية للعضّ والأذى، لكن حيرة زميل دراستي ليست وحدها التي تدفعني لمتابعته والصبر على ما يكتبه، بل قدرته هو وكثير من متابعيه على إبهاجي وإضحاكي في زمن صارت فيه الضحكة الحلوة شحيحة، خصوصاً حين تتغير مواقفهم وآراؤهم بين عشية وضحاها، ولحظة وما تلاها، من سد النهضة إلى رفع سعر رغيف العيش، طبقاً لتغير مواقف الرئيس القائد المفدى الذي أغرق الوطن بإنجازاته.

خذ عندك على سبيل المثال لا الحصر والحسرة، ما حدث قبل سنوات بعد أن تم الإعلان عن فوز رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد بجائزة نوبل للسلام، حيث كتب صديقي بوستاً نارياً قال فيه إن ذلك الفوز المخجل يؤكد على المؤامرة الدولية على مصر، وأن فوز ذلك اللعين هو مكافأة صهيونية له لأنه يحاول دفع مصر إلى العطش، وأن اليهود المتحكمين في كل شيء في الدنيا منحوه نوبل لكي يغيظوا المصريين الذين يعرفون أن السيسي أحق بالفوز بنوبل منه ومن الذين سبقوه.

بعد ساعات، نشر حساب السيسي على تويتر تغريدة يهنئ فيها شقيقه رئيس الوزراء الإثيوبي بفوزه بالجائزة، وهو بالمناسبة موقف سياسي عاقل ربما كانت مشكلته أنه جاء على إثر سلسلة من المواقف المختلة والغريبة فضاع أثره وجاء باهتاً، وما إن قرأت التغريدة حتى هرعت إلى حساب صديقي السيساوي الحائر، فوجدت أنه قام بإعادة نشرها وكتب معلقاً عليها "هذه أخلاق الرؤساء، كلنا ثقة في قيادتك الحكيمة"، ولأنني كنت أمتلك فسحة من الوقت الذي يطيب قتله، فقد شجعني ذلك الالتفاف العكسي المباغت على قراءة بعض ردود الأفعال على ما كتبه السيسي، فلم ألمس جديداً يثير البهجة، وقبل أن أغادر حزيناً على ما وصل إليه حال النفاق في بلادي، عوضني الله بقراءة تغريدة كتبها مواطن اسمه شريف اختار لنفسه لقبا الكترونياً هو "عسل إسود"، وكتب في التعريف بنفسه على حسابه في تويتر "تزوج منها إبراهيم اتولد فيها موسى حكمها يوسف ورحل إليها عيسى وأوصى بها سيد الخلق عليه السلام.. درة التاج العربي مصر"، أما في رسالته التاريخية التي علّق بها على تغريدة رئيسه المفدى فقد كتب السيد "عسل إسود" قائلاً ومحذراً ولكن بحنان المحب: "كرم الأخلاق بيطمّع الدول فينا.. الله يعينك"، ولكيلا يفهمه المخبر المسئول عن قراءة التغريدات خطئاً، فيرسله له قوة تعفقه من قفاه، فقد قام بإضافة قلب أحمر تعبيراً عن محبته الغامرة للسيد الرئيس الخلوق.

كيف يمكن لمن يعارض السلطة أن يحترس من تحوله يوماً ما إلى صاحب سلطة يقمع بها غيره وتفسده مثلما أفسدت غيره؟

لا أستطيع أن ألوم السيد "عسل إسود" على الإطلاق، بعد أن قرأت كلاماً مشابهاً لكلامه كتبه مثقفون كبار أفنوا عمرهم في البحث والتدقيق والتنوير وحماية المصريين من أنفسهم الأمّارة بالسوء، ولا أستبعد أن يبكي بعضهم من فرط التأثر لو قرأوا كلام السيد "عسل إسود" ملحناً ومُغنّىً بصوت مطرب صاحب بحّة، وقد قرأت لبعضهم من قبل إشادة باللحظة التاريخية التي طلب فيها السيسي من أبي أحمد بمنتهى كرم الأخلاق أن يحلف بالله العظيم تلاتة أنه لن يقوم بفعل أي شيء يضر بمصر، وأكدوا أن السيد أبي أحمد "هيتربط من حلفانه أمام الأمم"، فلن يلومنا أحد لو قمنا بعدها بقصف السد الإثيوبي بالطائرات والغواصات والصواريخ وسائر الأسلحة التي لم نفعل شيئاً في السنين الماضية إلا شراءها والتباهي بها.

لست أطمع في تغيير آراء صديقي السيساوي الحائر ولا غيره من السيساوية الجسورين، كل ما أتمناه أن يتحرى السيد "عسل إسود" الدقة التاريخية في "البايو" الذي يقوم بتعريف متابعيه بمجمل رؤيته التاريخية لمصر، فيكتبه كالآتي: "تزوج منها إبراهيم على مراته الأولى، خرج منها موسى خائفاً يترقب، اتسجن فيها يوسف سنين ظلم، وقضى فيها عيسى كذا ليلة، وأوصى سيد الخلق بأقباطها خيراً فطلّعنا دين أبوهم، مصر درة التاج العربي وقت ما نبقى عايزين، وبلا عرب بلا نيلة وقت ما يبقى مزاجنا متعكّر، تحيا مصر ومش مهم احنا".

...

حين أقرأ بعض الأشياء المثيرة للرثاء التي يكتبها ويقولها من حين لآخر، أتذكر كم كان في السابق موهوباً وحاضر البديهة وواسع الاطلاع وقادراً على إنتاج أفكار مدهشة ولطيفة، وكانت كل هذه الفضائل تغفر له رذائل مثل تقلباته المزاجية وعشقه للمزايدة على طوب الأرض وشروره الصغيرة، وحين أفكر لماذا حدث له ذلك التحول المقيت الذي أوصلك لهذا الانحطاط الذي أفقده حتى قدرته على الكتابة الحلوة وأضاع لمسته التي كانت ساحرة بالفعل، لا أجد سبباً أوضح من الغرور.

بالمناسبة وأنا هنا لست في مقام الوعظ، لا أتحدث عن الفخر الطبيعي للإنسان بنجاحه، أو سعادته بأن يكون محط أنظار الناس بما يكتبه أو يقوله، ولكن أتحدث عن الغرور الذي يجعلك تتصرف بوصفك صاحب سلطة معنوية لأنك تمتلك الموهبة التي تتعامل معها بوصفها منحة أزلية تعطيك شعوراً بالتفوق والأفضلية، وتبدأ مع الوقت في تقمص دور صاحب السلطة في تعليقاتك وآرائك ونظرتك لمن حولك، وعنها تبدأ من حيث لا تدري رحلة منحدر الهبوط التي يصعب الرجوع منها في الغالب الأعم.

لكن كيف يمكن للإنسان أن ينتبه إلى الفرق بين الفخر والغرور، بين الفرحة بالإنجاز والوقوع تحت أسر الإنجاز؟ كيف يمكن لمن يعارض السلطة أن يحترس من تحوله يوماً ما إلى صاحب سلطة يقمع بها غيره وتفسده مثلما أفسدت غيره؟ والله العظيم لا أعرف إجابة محددة، لكن ما أعرفه أنك لا بد من أن تواصل تحذير نفسك وغيرك من خطورة الغرور الذي يفتك بالجميع لكنه يفتك بشكل أسرع بالكتّاب، فيظهر أثره على كتابتهم بشكل مذهل، ستدركه حين تقارن بين مستوى كتابتهم حين كانوا يعارضون السلطة، ومستواها حين تحولوا إلى أصحاب سلطة، ولا نملك قبل ذلك وبعده وخلاله، إلا أن نسأل الله الستر وحسن الختام.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.