من حكايات حارتنا... الوباء
عبد الحفيظ العمري
حارتُنا واحدةٌ من حاراتِ الدنيا الضيّقة، لا تنتهي حكاياتها ولن تنتهي. وهنا أدوّن بعضاً من تلكمُ الحكايات.
(1): حكاية الدجّال
مثلُ أيِّ حارةٍ تحترمُ نفسها، يوجد لدينا دجّال! بل دجّالون عديدون، لكن هذا كبيرهم. حلو اللسان، يصنع لك من الحنظل المُرِّ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين.
أطالَ لحيته من أجل أن يُوحي للمتلقي بالصلاحِ والتقوى، مع أنّ قناعتي أنّه ليس وراء كلّ لحيةٍ دجّال، فأنا لستُ مسلسلاً عربياً.
المهم، هذا الدجّال، كشأنِ كلّ دجّالي الدنيا، يُراكم الثروات والنساء في بيته العامر ذي الأدوار المتعدّدة والمستمرة في الامتدادِ عمودياً، تماماً مثل دجله المُعَسْبَل (المُعَسْبَل بالعامية اليمنية تعني الممتد والمتداخل بعضه ببعض).
- يا راجل، كيف حكمت أنّه دجّال، لِمَ لا يكون مظلوماً؟
- لم أحكم عليه، بل احتكمتُ إلى شهاداتِ ضحاياه التي سمعتها منهم، مَنْ سلب أرضه، ومَنْ سلب ماله، ومَنْ وثقت به فسلبها، ومَنْ... ومَنْ... ومَنْ.. إلخ. فهل تتواتر شهادات كلّ هؤلاء على باطلٍ؟ ولا أدري لماذا دفاعك المُستميت عنه؟
- أنا لا أدافع عنه، لكن لم يُدن من السلطات حتى الآن، فكيف تحكم بصدقِ ضحاياه "المزعومين"؟
- صحيح لم يُدن حتى الآن، لعدم وجود دليلٍ مادّيٍ ضدّه، وكذلك سذاجة وطيبة ضحاياه، الذين غرّهم مظهره البريء، والقانون في حارتنا، كما تعلم، لا يحمي المغفلين، لكنه يحمي اللصوص!
ومرّتِ الأيّام، واستيقظت حارتنا ذات يومٍ مشهود على خبرِ اختفاء الدجّال في ظروفٍ غامضة، وتواردت التكهنات بين رحيله عن الحارة وبين القبض عليه سرّاً، وبلغت التكهنات مداها لتقول بمقتله.
ولا أحد يعرف حقيقة الأمر، كما لم يعرفوا حقيقة الدجّال نفسه.
(2): حكاية الوباء
أصابَ حارتَنا وباءٌ غامض، وباءٌ جعل الناس يتهافتون على شجرةٍ غريبةٍ دخلت الحارة ذات يومٍ بعيد، فجعلهم يهتمون بزراعتها في أغلب أودية الحارة.
الغريب أنّ تلك الشجرة لم تكن مادة غذائية، ولا تنفع للتصدير، إنّما هو "الكيف"!
الكيف؟
نعم، هذه الشجرة تجعل كلّ من يمضغها يُدمن الجلوسَ لساعاتٍ كثيرة في مكانه، من دون أن يعمل أو ينجز شيئاً، إلا أن يبني أحلاماً وقصوراً في الهواء. وقد اتخذَ الناسُ في الحارة من مضغِ هذه الشجرة "كيفاً" طيلة النهار وآناء من الليل. إنّها شجرة الكيف التي تجعلك ملكاً غير متوّجٍ على مملكةِ الوهم!
حاربَ العقلاء هذه الشجرة، لكن المهووسون بها، وهم كُثر، دافعوا عنها بضراوة، وحقيقة الأمر أنّهم كانوا يدافعون عن كيفهم!
والذي زاد الطين بِلّة، أنّ هذه الشجرة كانت تؤتي غلتها، إذا صح التعبير، بشكلٍ شبه يومي، ممّا أدّى إلى انتشارِ زراعتها بشكلٍ ملحوظ، فصارت مصدرَ دخلٍ لأقوام، بل لحكوماتٍ متعاقبة على الحارة، وبذلك أصبح همّ القوم المحافظة عليها مهما كانت الأضرار.
القانون في حارتنا لا يحمي المغفلين، لكنه يحمي اللصوص
أيّة أضرار؟
يا صديقي، هذه الشجرة علّمت الناس الكسل من طولِ الأوقات التي يقضونها في مجالسهم لمضغها، فكانت النتيجة أن ضاعت أعمارٌ وجهودٌ في لا شيء، فضلاً عن استئثار شجرة الكيف بأوديةِ الحارة التي كانت مزارع للمحاصيل الزراعية الأخرى، فتدهورت الثروةُ الزراعية، واتكل الكلّ على الاستيراد الخارجي... والقائمة تطول.
يكفي أن تجد الفرد من هؤلاء القوم متكوّماً في أيّ بقعةٍ يمضغ شجرة الكيف غير مبالٍ بما يدور حوله، وكأنّه في غيبوبة، بل هو كذلك لساعاتٍ طوال، وعلى هذا المنوال تمرّ به السنوات.
إذا لم يكن هذا وباءً، فماذا تسميه إذن؟
(3): حكاية المخلّص
عرفته موظفاً حكومياً منذ زمنٍ بعيد، فقد شغل وظائف كثيرة طوال مسيرته المهنية، بيد أنّه كان لا يقرّ له قرار في أيّة وظيفةٍ من هذه الوظائف العديدة، بالرغم من أنّها كانت وظائف مُغرية للمكوث فيها زمناً طويلاً، نظراً إلى أنّها وظائف مالية إن صح التعبير، فالرجل خريج محاسبة، لذا كنت تراه، إمّا مدير مشتريات وإما أمين صندوق وإما مسؤولاً مالياً... إلخ.
كلُّ وظيفةٍ شغلها يغادرها بعد حين بسبب مشكلةٍ تحدث بينه وبين مرؤوسيه حول (نسبته) التي يحصل عليها نظير (خدماته) التي يقول إنّه يقدّمها لهم.
وكلّ مَنْ يعرف كواليس العمل الإداري في حارتنا يُدرك على الفور مغزى ذلك؛ إنّه الخلاف المعهود بين المشتركين حول "حصصهم" في "غنيمة" المال العام!
في النهاية، خرج الرجل من كلّ هذا وقد رضي من الغنيمة بالسلامة من أيّ مُساءلة قانونية محتملة، ربّما قد تطاوله بالرغم من إخلاصه في عمله كما يقول!
***
وتستمر الحكايات..