غزّة وجبهات الإسناد
عبد الحفيظ العمري
على الرغم من مرورِ أكثر من أحد عشر شهراً، لا يزال أُوار معركة "طوفان الأقصى" مشتعلاً حتى اليوم. ومنذ أشعلت المقاومة الفلسطينية شرارتها الأولى فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل الماضي، لا تزال إسرائيل تُواصل همجيّتها في استهدافِ المدنيين العزّل، وتجريف كلِّ شيءٍ على أرض قطاع غزّة بدون استثناء. وكلُّ هذا يحصل تحت بصر وسمع العالم الذي يُراوح مكانه بين التنديد والشجب والاستنكار، ولا أنسى القلق الذي تجيده منظمة الرعب الدوليّة، المُسمّاة الأمم المتحدة!
كلُّ تلك الأفعال الاستنكاريّة لم تتحوّل إلى فعلٍ على الأرض يلجمُ دولة الاحتلال عن الإبادة الجماعيّة لشعبٍ أعزل، على الرغم من قرارِ مجلس الأمن بوقف الحرب في يونيو/ حزيران الماضي. لكن دولة الاحتلال لا تعترف بأيّ قرار، بل استمرّت آلتها الدمويّة في القتل تحت ذريعة تحرير أسراها لدى المقاومة، بل ورمي التهم في تعطيلِ وقف إطلاق النار على حركة حماس، فيما أميركا تتصرّف وكأنها وكيلة دولة الاحتلال في هذه الحرب. بل ولماذا نقول وكأنّها! بل هي كذلك حقًّا.
والغريب في الأمر هنا، تلك العبارات السياسيّة التي ألفناها من إدارة بايدن: "أميركا لا تريد توسعة نطاق الصراع"! بيد أنّ الأحداث التي تلاحقت منذ يونيو/ حزيران الماضي وحتى اليوم، تقول عكس ذلك، إذ قامت إسرائيل بشنِّ هجومٍ جويٍّ على ميناء الحديدة في اليمن في مغرب يوم السبت العاشر من يوليو/ تموز الماضي، ردّاً على الطائرة المُسيّرة التي أُطلقت من اليمن وضربت تل أبيب.
لا تعترف دولة الاحتلال الإسرائيلي بأيّ قرار، بل استمرّت آلتها الدمويّة في القتل تحت ذريعة تحرير أسراها لدى المقاومة
وهنا نقف مع هذا الحدث، الذي يمثّل الأوّل من نوعه بخروجِ المقاتلات الإسرائيليّة عن نطاق جغرافيّتها المعهودة، في رحلةٍ طويلةٍ إلى جنوب الجزيرة العربيّة، لتأديب إحدى الجبهات المساندة لغزّة، حسب قولهم، لكن المغزى بعيد؛ فقد صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، عن تلك الضربة: "إنّ النيران المشتعلة حالياً في الحديدة يمكن رؤيتها في جميع أنحاء الشرق الأوسط والمغزى واضح، وسنفعل ذلك في أيّ مكان إذا اقتضت الضرورة".
وأعود لأسأل: أليس في ذلك توسعة للصراع؟ وماذا عن اغتيال القائد في حزب الله، فؤاد شكر، يوم الثلاثاء الثلاثين من يوليو/ تموز الماضي، بطائرةٍ مُسيّرة ضربت الضاحية الجنوبيّة في بيروت؟
وبعدها بأقل من ساعاتٍ معدودة، يأتي اغتيال القائد إسماعيل هنيّة رئيس المكتب السياسي لحماس في طهران، ثمّ تأتي عمليّة "المخيّمات الصيفية"؛ التي هاجمت فيها إسرائيل مُدناً في الضفّة الغربيّة في فجر الأربعاء الموافق للثامن من سبتمبر/ أيلول الجاري.
أميركا تتصرّف وكأنها وكيلة دولة الاحتلال في هذه الحرب
وماذا عن هجمات الهواتف المُفخّخة في الأراضي اللبنانيّة، يومي الثلاثاء والأربعاء السابع عشر والثامن عشر من سبتمبر/ أيلول الجاري، والتي استهدفت مقاتلي حزب الله، ثم توسّعت على مواطني لبنان، لتلحقها العمليّة العسكريّة على الضاحية الجنوبية يوم الجمعة التاسع عشر من سبتمبر/ أيلول الجاري، مستهدفةً نخبة قادة حزب الله، ونعني كتيبة الرضوان؟
كلُّ هذه الهجمات، ومئات المناوشات مع حزب الله، ماذا نسميّها؟
إذا كانت كلّ تلك الضربات ليست محسوبة ضمن توسعة الصراع، فماذا نسميها إذن؟ ما أفهمه أنّ إسرائيل منذ اندلاع هذه الحرب، وهي تخوض معركة وجود؛ معركة أكون أو لا أكون. وعلى جبهات الإسناد أن تفهم هذا، بعيداً عن اعتبار أنّ قواعد الاشتباك يجب ألّا تتغيّر، وأنّ المعركة الحقيقيّة هي في قطاع غزّة أيضًا.
أتفق هنا أنّ المعركة الحقيقيّة في قطاع غزّة، لكن قواعد الاشتباك ليست أمراً مقدّساً حتى لا تتغيّر، إلى جانب أنّ إسرائيل نفسها لا تلتزم بهذه القواعد، فلِمَ تلتزم بها جبهات الإسناد إذن؟
في الحقيقة، إنّها معركة مفتوحة، وبلا قواعد، معركة تستخدم فيها إسرائيل كلّ الأسلحة؛ من أسلحةِ الميدان العسكريّة إلى سلاحِ الدبلوماسيّة السياسيّة.
منذ اندلاع هذه الحرب، وإسرائيل تخوض معركة وجود؛ معركة أكون أو لا أكون
طبعاً، سلاح الدبلوماسيّة السياسيّة، تقوم به دول، والمفترض في الجانب الفلسطيني أن يمثّل العرب هذا الجانب. وهنا تكمن الحلقة الأضعف لدى المقاومة؛ لأنّ العرب لا يستخدمون كلّ أوراقهم، ولأنّ ليس كلّ الدول العربيّة منخرطة في المعركة. وكأنّ المعركة تخصّ الفلسطينيين وحدهم، هذه بلدهم وعليهم هم تحريرها!
قد أتفق مع الجزئيّة الأخيرة، لكنّك أيّها العربي، من المفترض، أنّك الحاضن الجغرافي والسياسي للقضيّة؛ ألم يتشدّق الساسة العرب منذ أكثر من سبعين عامًا باسم القضيّة الفلسطينيّة؟ ألم يسموها قضيّة العرب المركزيّة؟ ما بالهم وقت الجد، لم ترَ فلسطين منهم أحداً؟
أعرف أنّ حسابات السياسة تصنع الموانع أمام الحكّام العرب إزاء قضيّة فلسطين، بل الأسوأ أنّ كل دولة لها حساباتها الخاصة حول قضيّة فلسطين. لكن نظرةً إلى الخريطة تأتيك بجواب آخر؛ فهذه منطقة واحدة وإن كانت دولاً سياسيّة متناثرة، منطقة تشترك في وشائج متداخلة، ولن أحدّثك عن المشاعر القوميّة أو الإسلاميّة، لكنّي سأكون براغماتياً، وأقول إنّ الوشائج هي المصالح المشتركة. ليست في مصلحة مصر مثلاً، تصفية قطاع غزّة من السكان، ولا من المقاومة، وإعادة المستوطنات الصهيونيّة إليها؛ لأنّ هذا سيجعل مصر في مواجهة المدفع دوماً. ولو التفت إلى الأردن ولبنان وسورية، فستجد مصالح مشتركة لها مع فلسطين، تمتدّ إلى عمق تلك الدول. إذن، إنّها مصالح، والأفضل أن تظلّ عربيّة محضة، وفي ذلك خيرٌ لدولنا ممّا يجري.