من الرحلة الميمونة إلى القرية الميمونيّة (1)
مصطفى العادل
يشعر المرء أحياناً بما يشبه الصدمة، فيقف قلمه عن الكتابة، وتتجمد الأفكار من شدّة انفعال المشاعر وتوهّجها، هذا ما حدث لي فعلاً بعد الملتقى الوطني الذي انعقد قبل أيام قليلة في قرية أولاد ميمون أو بالأمازيغية (أيت ميمون)، بإقليم شتوكة أيت باها بأغادير.
انصبّ اهتمام الملتقى على جهود العالم المغربي محمد بازّي، ابن القرية الميمونية، وعلى إسهاماته الكبيرة والفعالة في بناء التأويليات الجديدة، وتأسيس مدرسة مغربية خالصة في التجديد البلاغي التأويلي وفي الإصلاح التربوي.
وحضرت الملتقى ثلة من الباحثين من مختلِف جهات وأقاليم مغربنا الحبيب، احتفاء بالرجل واعترافاً بدوره في توجيه كتاباتهم، وإشباع رغباتهم المعرفية، وانشغالاتهم وهمومهم العلمية من خلال أعمال علمية وكتابات مهمة تستحق المتابعة والدراسة.
اختلفت ظروف الملتقى وسياقاته عما نعرفه في الساحة العلمية، وحظي بمنزلة كبيرة في قلوب كلّ من حضروه وحاضروا فيه وحضّروا له، وتردّدت كثيراً عبارات السعادة على ألسنة كلّ المشاركين، وأجمعت على أنه الملتقى الفريد، والذي لا يُمحى من الذاكرة.
تردّدتُ شخصياً في الكتابة عن الملتقى طيلة أيام انعقاده، بدأت مرّات ومرّات في كتابة منشور بشأن الملتقى، شكراً، وحبّاً، واعترافاً، في حسابي على "فيسبوك"، لكنني كنت دائماً أتراجع عن نشره. نشرت بعض الصور للمكان، ولبعض الباحثين الذين قضيت معهم لحظات علمية ممتعة دون أن أعلّق عليها، كنت أدرك أنني لن أقوى على التعبير الصريح عن صدق المشاعر التي كانت تغمرني في تلك اللحظات، لذا لم أخاطر بالكتابة، وربما تيقنت أنّ الملتقى وظروفه وأهله لا يكفيهم منشور واحد على "فيسبوك" لشكرهم والثناء على صنيعهم وكرمهم.
أحيانا، يضطرّ المرء إلى التزام الصمت، لأنّ الصمت أقلّ ظلماً وأعدل من الكلمات، وأنصف من الجمل القصيرة القاصرة
الكتابة مخاطرة ومغامرة، وقد نكتب فنظلِم، وبعض المواقف، وبعض الناس لا تستطيع الكلمات والجمل أن تنصفهم وتعدل بشأنهم، وإن كتبنا وحاولنا الإنصاف والعدل. وأحياناً، يضطرّ المرء إلى التزام الصمت، لأنّ الصمت أقلّ ظلماً وأعدل من الكلمات، وأنصف من الجمل القصيرة القاصرة.
أجلت الكتابة بفارغ الصبر، لا لشيء إلا لأنّ فكري متوّقف عن الاشتغال، وكلماتي عاجزة عن التعبير. واليوم قد عدت إلى مكتبي بأعالي جبال آيت بوكماز التي أستقر فيها. قضيت اليوم في قراءة أحد الكتب التي أهديت لي في الملتقى، رنّت عقارب منتصف الليل في الساعة الحائطية بمكتبي، أغلقت الكتاب وتذكرت أنني كنت قبل يوم في مكان رائع رفقة أحبة لن أنساهم للأبد، تذكرت أنني قضيت معهم لحظات تستحق الكتابة بالفعل.
لم أعرف من أين أبدأ، لكن قلمي يسير كما يشاء الله، يخطّ ما يوحى إليه بتوفيق من الله، في النهاية، وجدت نفسي أكتب عن الرحلة الميمونية والقلم يسير على الورق بسلاسة لامتناهية.
اخترت الكتابة عن القرية الميمونية وعن ظروف الملتقى العلمي الذي انعقد هناك اعترافاً بجزء يسير من جهود أولئك العظماء الذين أسهموا جميعاً في نجاح الملتقى من ناحية، وتنبيهاً إلى بعض الجوانب الإنسانية التي افتقدناها في حياتنا المعاصرة وفي ملتقياتنا العلمية الرسمية من ناحية ثانية.
ولأنني عازم على نشر هذه الفعالية ومشاركة بعض هذه المعاني العميقة مع القارئ الكريم في مدونات "العربي الجديد" (التي كتبت في جريدتها الرسمية أولى مقالاتي قبل خمس سنوات)، فقد اخترت أن أقسّمها إلى عدّة أجزاء، يجيب كلّ جزء عن بعض التساؤلات التي قد تخطر في ذهن القارئ، لعلها تُبلّغ بعض المعاني التي تستحق التأمل.
أين توجد القرية الميمونية العامرة؟ وما الجديد الذي يميّزها عما نعرف اليوم؟ لماذا اخترت الكتابة عن هذا الملتقى دون غيره؟
هذه أسئلة سأجيب عنها في الجزء الثاني من هذه السلسلة، وأرجو أن يجد فيها القارئ ما يفيده ويحرّك في داخله ما تحرّك في داخلي، ليعيد البحث عن حقيقة وجوده كما أعدت البحث عن حقيقة وجودي، عن أصلي وحاضري ومستقبلي...