ملف: عنصريون ولكنهم لا يشعرون (6)
مصطفى العادل
اعتدنا على الحديث عن الآخرين والكتابة عن أخلاقهم، وأَلِفْنا إحداث المقارنات بيننا وبينهم، بل صار البعض من أبناء أمتنا يقيس أخلاق العالمين بما يؤمن به هو من قيم، ويقارن مواقفهم في ضوء رؤية العالم التي يعتقد أنه يمثلها، لكن هل يسأل نفسه عن مدى تمثيله لتلك الرؤية المثالية فعلاً كما يدّعي أنه يمثلها نظرياً؟
لقد تصاعدت وتيرة تداول خطاب العنصرية في العقود الأخيرة كثيراً، وتردّد في أدبيات الأحزاب السياسية، والنقابات، وجمعيات حقوق الإنسان، وأصبح جزءاً من الخطاب اليومي للإنسان العربي، ويرجع ذلك التصاعد إلى ما تنقله الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي من خطابات حول العنصرية عن الانتخابات السياسية في الدول الغربية، وفي موضوع الهجرة واللجوء، وفي ملاعب الرياضات العالمية وغيرها، لكنه يظلّ في مخيلتنا نحن أبناء الأمة العربية والإسلامية سلوكاً غربيّاً، وقد يُعبِّر الواحد منّا عن رفضه المطلق للعنصرية والكراهية، وهو لا يدرك أنه يمارسها فعلياً في محيطه دون أن يشعر.
سأحاول في هذه المقالة الولوج إلى عمق بعض التصوّرات التي تتبنّاها طائفة من العرب تجاه الإنسان الأمازيغي في بلدان شمال إفريقيا، لأبيّن بعض مظاهر العنصريّة والكراهية غير المباشرة في خطاباتها وتصوّراتها تجاه القضية الأمازيغية، ثم أُبيّن بعض الأسباب التي تُقَوِّي هذه العنصرية الدفينة وتُنْعِشُها، وأختم ببعض المقترحات التي قد تساعد في تجاوز العنصرية الدفينة، وتؤسّس لخطاب مشترك ينظر فيه الإنسان، عربياً كان أو أمازيغياً، إلى مرآة حقيقية تعكس له قدر نفسه الحقيقي.
يُعبِّر الواحد منّا عن رفضه المطلق للعنصرية والكراهية، وهو لا يدرك أنه يمارسها فعلياً في محيطه دون أن يشعر
لقد عمل الأمازيغ إلى جانب العرب لقرون من الزمن، فاندمجوا في الأمة الواحدة، وخدموا العربية والإسلام، ولا تزال ساحتنا العلمية والمعرفية تجود اليوم بمشاريع علمية تُشَرِّفُ الأمةَ، وراءها مفكرون وعلماء من أصول أمازيغية، ويُفتَرض استناداً إلى هذا أن يُقبل أبناء هذه الطائفة من العرب على تعلّم الأمازيغية، والاستفادة من الكنوز النفيسة لإنسانها وتراثها وثقافتها الزاخرة، وأن يتخلّصوا من كراهيتهم التي يمارسونها دون أن يصرّحوا بها عادة، وأن يتجاوزوا حساسيتهم المفرطة تجاه كلّ ما يرتبط بالأمازيغية، وعليهم أن يراجعوا اعتقادهم المسبق بأنّ أيّ خطاب حول الأمازيغية هو بالضرورة خطاب معاد للعربية وللإسلام.
من العنصرية الدفينة أن يرفض البعض ممن يعتبر نفسه عربياً الانفتاح على الثقافة الأمازيغية بدعاوى واهية من قبيل "نحن أمازيغ عرّبنا الإسلام"، فمتى كان الإسلام يُسوِّق للعنصرية، ويُروِّج لخطاب تهميش الثقافات والقضاء عليها، والتفضيل بين الأعراق على حساب الدين والإيمان؟ وهل نحتاج اليوم إلى تعريب العالم، والقضاء على الاختلافات اللغوية والثقافية للشعوب من أجل اعتناقها الإسلام؟
لا تسمح العنصرية الدفينة لأصحابها بسماع خطابك حول الأمازيغية حتى وإن دعوتَ فيه إلى ضرورة التفكير الجِدّي في بناء نظريات في اللغة وأنساق الثقافة الأمازيغية، دعوتك هذه في نظرهم دعوة إلى الفرقة، وخدمة لأجندات أجنبية، سوف تنهل عليك الكثير من التعليقات والردود السلبية، بعضهم سيتّهمك بالإلحاد، وبعضهم سيسبّك ويطلب منك أن لا تكتب بالحرف العربي ما دمت تتحدث عن الأمازيغية.
التعايش في نظر البعض هو أن تنسى أمازيغيتك وثقافتك وتخدم عربيتهم التي لا يجيدونها ولا يخدمونها أصلاً كما تجيدها أنت وتخدمها
هناك عنصرية دفينة وكراهية حقيقية عند هذه الطائفة من الناس تجاه كلّ ما هو أمازيغي، وأبناؤها عموماً غير مؤهلين بعد للنقاش الجدي حول التعايش بين اللغتين والثقافتين، والتعايش في نظرهم هو أن تنسى أمازيغيتك وثقافتك وتخدم عربيتهم التي لا يجيدونها ولا يخدمونها أصلاً كما تجيدها أنت وتخدمها. يمكنهم أن يدخلوا معك في أيّ نقاش ما دمت لا تتكلم عن الأمازيغية، وينقلبوا كلياً عندما تبدأ نقاشك حول اللغة الأمازيغية وثقافتها.
ينبغي أن تدرك هذه الطائفة من أبناء العرب أنّ نصرة الإسلام وخدمة اللسان العربي لا تشترط علينا التفريط في لغاتنا وثقافاتنا وتقاليدنا، والانسلاخ من خصوصياتنا على حساب الذوبان في ذات الآخر، كما أنّ التضلّع في العلوم الحديثة، والتمكّن منها لا يتطلب منّا الاندماج الكلي في الثقافة الغربية تماماً، وعلى هؤلاء معرفة أنّ الثقافات الأخرى واللغات البشرية المختلفة لا تضر الدين ولا تضايق العربية، بل تستفيد منها الحضارة والأمة كلما استطاعت أن تُشركها في مهمة الدعوة والرسالة التي كُلّف العرب بتبليغها عندما شرّفهم الله بالرسول الكريم والكتاب المبين، وقد استطاعت الأمازيغية وأبناؤها خدمة الإسلام، وتقديم خدمات جليلة للسان العربي، ويمكن لكلّ الثقافات واللغات أن تُساهم في خدمة الإسلام وتبليغ رسالته للعالمين، وخدمة اللسان العربي لسان حضارة القرآن.
لا ننكر أنّ هذه العصبية الدفينة قد أنتجتها خطابات فكرانية اتخذت من الأمازيغية مطية لنشر الفكر العلماني والإلحادي، ومواجهة انتشار الإسلام في بلدان شمال أفريقيا، وأنّ جلّ مظاهر تلك العصبية الدفينة جاءت نتيجة لنشر العداء ضد العرب والإسلام، ونتيجة لغيرة بعض العرب والمسلمين على دينهم ولغتهم وحضارتهم، لكنه حان الوقت اليوم للنقد الذاتي، والفصل في القضايا الشائكة بين العربية والأمازيغية، لغةً وإنساناً وثقافة، حان الوقت اليوم لنرفض معاً، عرباً وأمازيغ، كلّ الخطابات العنصرية التي ترفض الاهتمام باللغة والثقافة، وعلى الجميع أن يؤمن بقيمة الإنسان باعتبارها أعلى القيم وأسماها. وعندما يتحقّق فينا هذا المطلب، ستكون اللغات والثقافات والأعراق أدوات لتحقيق القيم العليا، والرقي بمجتمعاتنا الإنسانية من قعر التخلف والتناحر إلى قمة الازدهار والتقدم القائم على التعايش والمحبة والسلام.