ملف| هل فقد العربي كرامته؟ (33)

01 فبراير 2024
+ الخط -

هل فقد العربي كرامته؟

يدور في ذهني هذا السؤال وأنا أتصفح بعض كتب التراث المليئة بشعر الحماسة والفخر من معلّقات الجاهلية وروائع أبي تمام وأبي الطيّب المتنبي وأبي فراس الحمداني... إلخ.

يُذهل المرء عندما يعرف أنّ حرباً ضروساً نشبت قبل ألف وخمسمائة سنة، وكادت أن تفني عبس وذبيان من العرب، لولا أن تداركهما بالصلح سيدين عظيمين من سادة العرب، هما هرم بن سنان والحارث بن عوف.

قال عمرو بن كلثوم في معلقته الشهيرة:

ألا لا يجهلن أحدٌ علينا     فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا. 

لم يقبل الشاعر الجاهلي هنا أن يُستهان بكرامته، أو أن يُنتقص من قدره، وسيرد بالمثل على كلّ من تطاول عليه، وهو في قصته المشهورة، والتي قال بسببها هذه الأبيات، لم يكتف بالرد شفهياً بل كان رده بسيفه أولا، وهذا ما يزيد قصيدته قوّة وبلاغة، إذ كان كلامه مطابقًا لمقتضى الحال.

إنّ رمزية الشرف والكرامة في مجتمعنا العربي هي كلّ ما يمتلكه المرء، فإذا ضاعت منه يفقد الشخص قيمته ومكانته الاجتماعية. ففي اليمن مثلًا، وهي البلد الذي أنتمي إليه، تمثل هذه القيم، بحقها وباطلها، كلّ شيء في حياة الإنسان اليمني، حيث تقام حروب ومعارك بسبب كلمة، تصل حدّ القتال بالسيف دفاعًا عن الشرف، إذا ما تطاول عليك خصمك، أو انتقص من قيمتك، أو استهزأ بك.

الخروج  للتظاهر بدافع عاطفي لا يكفي ولا يعفي شعوبنا من مسؤوليتها الأخلاقية أيضا

لكن هل تحول العرب بين ليلة وضحاها إلى ظاهرة صوتية كما قال أحدهم؟

يحتار المرء اليوم وهو يحاول توصيف حالة شعوبنا العربية التي ترى الصلف الصهيوني وما يُرتكب من جرائم ومجازر في قطاع غزّة، وهي صامتة. كيف يهنأ عيش ذلك العربي الذي يخوض حربًا من أجل ناقة وجمل، وأخرى من أجل بيت شعر أو كلمة عابرة، ثم لا يبالي وإلى جواره يتم قتل عشرات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ؟ وتتداعى الأمم على إخوانه، فيسقطون واحدًا تلو الآخر، بينما هو يلوذ بالصمت غافلًا، كأنّ الأمر لا يعنيه، أو في أحسن الأحوال يخرج في تظاهرة تدوم لسويعات قليلة، ثم يعود أدراجه مطمئنًا أنّه قد أدى واجبه وبرّأ نفسه من تهمة الصمت والخذلان إزاء ما يحدث.

الواقع أنّ الأمر أكبر من ذلك بكثير، والخروج للتظاهر بدافع عاطفي لا يكفي ولا يعفي شعوبنا من مسؤوليتها الأخلاقية أيضًا. فلو كانت لشعوبنا العربية كرامة كتلك التي كانت لها في غابر الأزمان لما كان هذا حالها، ولما صارت تلهث خلف الفتات غافلة عن قضاياها المصيرية. إنّنا نعيش حالة رهيبة من الانحدار وتبلّد المشاعر، ونسير بلا وعي أو علم إلى حافة السقوط المدوية. طبعا لن يجدي نفعًا هذا الإدراك أنّنا تأخرنا كثيرًا في التغيير ما لم يقترن بعمل جاد ومتواصل ونهضة اجتماعية وثقافية وعلمية بالدرجة الأولى. إنّ إلقاء الملامة على الحكّام هو عذر أقبح من ذنب؛ فكما تكونون يُولى عليكم، وبداية النهضة من إصلاح الشعوب لنفسها، أمّا الحكام فمن وسط هذه الشعوب ومن طينتها، مهما حاولنا إثبات العكس.

نأمل ألّا يكتب التاريخ عنّا أنّنا كنّا نرقص ونغني بينما نسمع صرخات الاستغاثة من أهالي غزّة

أتذكر مقولة ابن القيم رحمه الله "فحكمة الله تأبى أن يولي علينا في مثل هذه الأزمان مثل معاوية وعمر بن عبد العزيز، فضلا عن مثل أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، بل ولاتنا على قدرنا وولاة من قبلنا على قدرهم وكل من الأمرين موجب الحكمة ومقتضاها" .

أتمنى أن لا نتحوّل كشعوب عربية لنصبح مثل قوم الشاعر قريط بن أنيف، حين أغار عليه نفر من بني شيبان فأخذوا له ثلاثين بعيرًا، فاستنجد قومه فلم ينجدوه فذهب إلى قبيلة مازن يستنجدهم فأنجدوه وأعادوا له حقه، فقال يمدح مازن ويذم قبيلته التي نكصت عن نجدته:

لو كنتُ مِن مَازِنٍ لم تَسْتَبِحْ إِبِلِي

بنو الَّلقِيطَةِ مِن ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَا

إذن لَقَامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ

عندَ الحَفِيظةِ إِنْ ذو لُوثَةٍ لانَا

قومٌ إذا الشَّرُّ أَبْدَى نَاجِذَيْهِ لَهُمْ

قاموا إليه زَرَافَاتٍ وَوِحْدَانَا

لا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حينَ يَنْدُبُهُمْ

في النَّائِبَاتِ على ما قال بُرْهَانَا

لكنَّ قومِي وإِنْ كانوا ذَوِي حسبٍ

ليسوا مِن الشَّرِّ في شيءٍ وإِنْ هَانَا

يَجْزُونَ مِن ظُلْمِ أَهْلِ الظَّلْمِ مَغْفِرَةً

ومِن إِساءَةِ أَهْلِ السَّوءِ إِحْسَانَا

كأَنَّ رَبَّك لم يَخْلُقْ لِخَشْيَتِهِ

سواهمُ مِن جميعِ الناسِ إِنسانَا

فليت لي بهم قومًا إذا رَكِبُوا

شَدُّوا الإِغَارَةَ فُرْسَانًا ورُكْبَانَا.

أتمنى أن لا نكون كقبيلة ذلك الشاعر فيكتب التاريخ عنّا أننا كنّا نرقص ونغني بينما نسمع صرخات الاستغاثة بنا من كل حدب وصوب!

مدونات
مدونات

مدونات العربي الجديد

مدونات العربي الجديد
النصّ مشاركة في ملف| غزّة لحظة عالمية كاشفة، شارك معنا: www.alaraby.co.uk/blogsterms