ملف| هل سنصبح أسرى في الضفة الغربية؟ (29)

26 يناير 2024
+ الخط -

في زيارة إلى بيت عائلتي الذي نشأت به في "حلحول" لحضور مناسبة عائلية، تنقلّت بين رام الله والقدس الشرقية وبيت لحم والخليل، بصحبة زوجي وطفلنا، وأختي وأسرتها الصغيرة.

لقد كانت الرحلة بصحبة الأطفال الصغار مرعبة بحق، وقد لبينا الدعوة بعد تردّد طويل، وعليه يمكن تشبيه رحلة العبور بين مدن الضفة بعد إغلاق مداخلها الرئيسية، وسلْكنا مسالك خارجية وداخلية في المدن، طويلة وشاقة، برحلة البوسطة التي تعتبر أحد أساليب التعذيب للأسرى الفلسطينيين أثناء نقلهم من سجن لآخر، أو نقلهم إلى المستشفيات والمحاكم من خلال "البوسطة" التي تكون من الداخل سجنا متنقّلا.

عليك أن تتخيّل رحلة البوسطة، ليست كرحلة برفقة من تحبهم ولا "شمة هوا" كما نقول في العامية، إنّما رحلة برفقة قوات قمع السجون (النحشون)، كما عليك تخيّل رحلة مدتها لا تقل عن 8 ساعات، وأنت جالس ومكبّل بالقيود بطريقة مؤلمة على مقاعد حديدية صدئة، ليزداد الألم كلّما تقدّم وقت الرحلة، وقد لا يُسمح لك بالجلوس طوال ذلك، مع تعذيب وحشي مكثّف، يختلف عن التعذيب الوحشي الجماعي والفردي في السجون. ففي البوسطة، يتم التركيز عليك بشكل فردي واستثنائي، خصوصًا إن كان سبب نقلك هو للعلاج في المستشفى الذي لا يمتّ بأي صلة لمعنى المستشفى، فالمستشفى امتداد لممارسات القمع الهمجي على الأسرى والأسيرات الفلسطينيين والفلسطينيات.

لقد أشار وليد دقة إلى أنّ الواقع الزماني والمكاني في فلسطين المحتلة مقسّم إلى قسمين: السجن الكبير حيث نعيش فيه نحن المواطنين الذين نمارس حياتنا تحت مراقبة الاحتلال، والسجن الصغير المتخصّص في القمع والتحقيق، ضمن ما يسمّى عملية "صهر الوعي" على الأسرى والمعتقلين.

بناء على التقسيم الذي طرحه دقة: هل سنصبح في الضفة الغربية أسرى الاحتلال، كوننا أسرى بالفعل، لكن في السجن الكبير؟ هل السجن الكبير سيشتد علينا، وسيمنع حركتنا وتنقلنا، وسيحدّد الزمان والمكان اللذين ننتقل بهما حسب شروط الاحتلال؟

كلّما حاول الاحتلال صهر الوعي المقاوم وتهشيم الإرادة الصامدة عبر همجيته ولاإنسانيته، كلما أبدعت المقاومة في ابتكار نفسها وفرض نفسها من جديد

إنّ اشتداد الحصار والإغلاقات يحمل في كنفه مزيداً من شروط الأسر من أجل تفكيك حالة المقاومة الجمعية، وخرق الذات الجمعية و"تهشيم الإرادة"، وهذا مصطلح أضيفه إلى مصطلح صهر الوعي، فصهر الوعي يأخذ تعريفًا ذا أبعاد نفسية، مع الاختلاف في تكثيف الممارسات بين هذين السجنين، لكن نقل درجة تكثيف الممارسات في السجن الأكبر الذي سنفترض أنه سيكون الضفة الغربية لاحقا، يتطلب نقل الروتين الاستعماري الإحلالي والإلغائي الذي تكيّف معه الفلسطينيون وصمدوا أمامه في الضفة الغربية، نقله إلى مستوى أكثر حدّة وأكثر كثافة بالوقت، إذ أصبحت عملية الاغتيالات في مخيّمات شمال الضفة الغربية شبه يومية خلال معركة طوفان الأقصى، الأمر الذي يكشف عن رغبة سلطات الاحتلال في استباق الفلسطينيين، وبمعنى آخر أكثر سلاسة كما نقول بلهجتنا العامية يريدون أن "يتغدوا علينا قبل ما نتعشى فيهم"، أي قبل أن تصبح الضفة قطاع غزّة أخرى ولعنة أخرى تصيب الاحتلال.

من الواضح أنّ الاحتلال يقضي على نفسه بنفسه، في حال أحكم الحصار على الضفة الغربية ونكّل بالفلسطينيين وأرهبهم من فكرة التنقل، فهذا لا يمنع المقاومة من استعادة نشاطها على نحو مستمر ولانهائي، وإنّ الاحتلال يدرك ذلك من واقع تجربته معنا، فكلّما حاول صهر الوعي المقاوم وتهشيم الإرادة الصامدة عبر همجيته ولاإنسانيته، كلّما أبدعت المقاومة في ابتكار نفسها وفرض نفسها من جديد.

وأعود لأستكمل فكرة الأسر، فالسجن الكبير يفسّر عجز الاحتلال عن زج الملايين من الفلسطينيين في سجون صغيرة، وإنّ فكرة تشديد السجن الأكبر وتحويله قدر الإمكان إلى ما يشابه السجون الصغيرة، لهو فكرة تستدعي الصمود والتحدّي والمرونة النفسية من الفلسطينيين، وإن صبر الفلسطينيين في السجن الأكبر لا يعني أنّهم يسمحون بإهانة كرامتهم، بل لأن الشعب يرغب أن يعيش ويتحيَّن الفرص المناسبة ليقاوم ويصمد، وإنّ فكرة تقسيم أوسلو للضفة الغربية قد فشلت في تفكيك المقاومة، خصوصًا في المخيمات، وهذا ما أقصده بالفرص، فالمخيّمات هي الفرصة الزمانية والمكانية، هي الفضاء الذي يمهّد للمقاومة، بل ويصنعها ويخلقها من العدم.

المخيّمات هي الفرصة الزمانية والمكانية، هي الفضاء الذي يمهّد للمقاومة، بل ويصنعها ويخلقها من العدم

إنّ رحلة تنقلي من رام الله إلى الخليل لهي رحلة شاقة، وقد جعلتُني أتأمل مستقبل التنقل من خلف زجاج السيارة، وقد تولدت في جعبتي توّقعات مستقبلية لتقسيم يتفنّن بتعذيب الفلسطينيين وإخضاعهم لسياسات تتحكّم في كيفية وزمن التنقل واحتمالات الاعتقال والاغتيال من دون إنذار، ومن دون وجود سبب معروف، وكم اختلق الاحتلال من أسبابِ واهية للاغتيالات على الحواجز ليغطي بها قبح ممارساته الإجرامية.

إنّّ السيطرة على الزمان والمكان آخر أساليب الاحتلال وأقصى قدراته في هذه المرحلة كأسلوب إخضاع لسكان الضفة، ولتقطيع أوصال العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، ومن أجل جعل التنقل بين محافظة وأخرى ذا جدوى ضرورية، أمّا الأهداف الشخصية والترفيهية فستُشطَب من قائمة أولويات الفرد في التنقل، وسيقتصر التنقل على المسائل التجارية والمهنية. 

إنّ تنوّع أشكال الحواجز التي تكون مغلقة بالسواتر الترابية أو بالبوابات الحديدية والبلوكات، يثير مخيلة الفلسطيني عن مدى مهارة الاحتلال في ممارسة الحصار والإغلاقات، بل يجعله ينظر إلى أنّ الاحتلال يتفوّق على الجسد الفلسطيني الذي يقف ضعيفًا أمام بوابة حديدية تُصفّد كلّ المكان، وإنّ الوقوف أمامها ليس آمنا، وسيثير شكّ الجنود الذين ينفذون الإعدامات الميدانية من دون أي تردّد أو تحفّظ.

إنّ العقد النفسية في المجتمع الصهيوني الإحلالي هي مسألة لها علاقة بالأنا الكارهة لنفسها حسب المدرسة الفرويدية

لقد سلكنا طريقًا ترابيًا في المنطقة المصنفة C، أثناء خروجنا من مدينة حلحول، وقد وصلنا إلى الحاجز النهائي في هذا الطريق وقت الغروب عند حوالي الساعة 18:00، وصادفنا بوابة حديدية مغلقة تحت جسر، وكان المكان مريبًا جدًا، ولا أحد في المنطقة سوانا، وكان الجسر يعلو البوابة وتعبر من فوقه السيارات بسرعة قصوى. كان هذا أحد الطرق الالتفافية التي فتحها الاحتلال منذ مدّة لا تصل إلى سنة تقريباً، بحيث يعزل المستوطنين عن الطرق المشتركة مع الفلسطينيين في الطرق الخارجية، ويقلّل من الاحتكاك والمواجهة مع المستوطنين على نحو عنصري تام، ولغاية أمنية طبعا. وهنا يستدعيني التطرّق إلى ملحوظة مهمة، حيث كانت الطريق الرابطة بين عصيون وحلحول تمرّ من شارع "بيت أمر" الرئيسي، وهي محاذية لمخيم العروب، أمّا الطريق الالتفافية الجديدة فهي تقلّل من مواجهات الفلسطينيين مع المستوطنين المارّين بمحاذاة مخيم العروب الصامد، وبلدة "بيت أمر" التي تعتبر بؤرة مواجهات ساخنة ومستمرة مع الاحتلال.

وعودة لتلك البرهة التي توقفت سيارتنا أثناءها مقابل البوابة الحديدية، فقد أخذت أقول لزوجي راجية منه أن يُخْلي المكان بسرعة، خوفًا من إطلاق النار علينا، مع أنّه لم تكن هناك أيّ إشارة لوجود جيش من الاحتلال، لكن هذا لا يعني أنّ الاحتلال قد قام بإغلاق البوابة دون مراقبتها.

إنّ الاحتلال يكرّر فكرة التشديد الأمني التي سبّبت له عقدة من صدمة 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لقد كان اختراق الحدود الشمالية لقطاع غزّة من المقاومين الفلسطينيين، رغم المراقبة المشدّدة ووجود وسائل الاستطلاع من السماء والأرض والبحر، إلا أنّ ذكاء المقاومين واشتغالهم المدروس والمخطّط من أجل هذا اليوم الموعود، تسبّب في عقدة جعلت الإسرائيليين يمارسون ما يسمّى Manifestation، أي إخراج ما في باطن العقل اللاواعي، حيث تتمركز العقد النفسية والمخاوف والآلام والأسرار في منطقة اللاوعي في عقل الإنسان، وهذه المنطقة زاخمة بالعقد النفسية عند المستعمِر الصهيوني الذي يخاف من انقلاب المستعمَر عليه، فضلًا عن ذلك، إنّ العقد النفسية في المجتمع الصهيوني الإحلالي هي مسألة لها علاقة بالأنا الكارهة لنفسها حسب المدرسة الفرويدية، وهي موضوع سأتطرق له في المقالة التالية.

مدونات
مدونات

مدونات العربي الجديد

مدونات العربي الجديد

 

النصّ مشاركة في ملف| غزّة لحظة عالمية كاشفة، شارك معنا: www.alaraby.co.uk/blogsterms
تانيا كرجة
تانيا كرجة
باحثة وكاتبة في مجال الفلسفة وعلم النفس، والقضايا الجندرية، خريجة ماجستير علم النفس المجتمعي من جامعة بيرزيت.