ملف| هذا ما كشفته حرب غزّة (35)

06 فبراير 2024
+ الخط -

تُواصل إسرائيل حرب الإبادة ضد قطاع غزّة، معتمدةً على دعمٍ عسكري وغطاء سياسي أميركي، غير مكترثة بقرارات محكمة العدل الدولية، ولا تقارير المنظمات الحقوقية.

وصحيح أنّ إسرائيل خالفت كلّ التوقعات وتمكّنت من الاستمرار في حربٍ طويلة لم يُعرف عنها سابقًا قدرتها على خوض مثلها، لكن في هذه الحرب، نجحت فقط في التدمير وجعل غزّة مكانًا غير قابل للعيش، فيما فشلت في الحسم بالضربة القاضية. والفضل في ذلك يعود لشراسةِ المقاومة المستمرة حتى كتابة هذه السطور، فإسرائيل التي هَزمت ثلاث دول عربية في ساعات، والتي وصفتها مؤخرًا دول التطبيع  بأنها "دولة لا تقهر" في سياق تقديم المسوّغات للتطبيع (أو الاستسلام لها بالأحرى)، تبيّن أنّ تلك "الدولة" لم تُواجه من قبل حربًا حقيقية، وأنّه من السهل هزيمتها، إذ لم يكد يمضي أسابيع على بداية حربها على القطاع حتى فرغت مخازنها من الأسلحة، واستنجدت بواشنطن لتدشين الجسور الجوية لها في مواجهة مقاومة محاصرة منذ ثمانية عشر عامًا. كما أرسلت واشنطن وأخواتها البوارج وحاملات الطائرات وطائرات التجسّس ووحدات الدعم، وكأنّهم يواجهون دولة عظمى. إنّه أمر مثير للتعجّب والسخرية أيضًا.

أمّا على المستوى العربي، فقد كشفت هذه الحرب أنّ مفهوم الأمّة يحتاج تحريرًا ومراجعة، فترك غزّة وحيدة تتصدّى لهذا الوحش المنفلت العقال، مع عجزٍ، ليس فقط في وقف عدوانه، وإنّما في إيصال زجاجة ماء للفلسطينيين المحاصرين في قطاعٍ تحدّه دولة عربية، ولا يتطلب الوصول لأجوائه أقلّ من نصف ساعة طيران من دول الجوار.. ليشير هذا بوضوح إلى أنّ من تركوا النساء والأطفال والشيوخ يتضوّرون جوعًا، ويئنون من المرض وانعدام الرعاية الصحية، لا يمكن إلّا أن يكون مفهوم "الأمة" قد أصيب عندهم بالعطب، أو أنّه أصلًا مفهوم متخيّل يحتاج لمراجعة.

وحتى الحراك على المستوى الشعبي لم يكن للأسف بمستوى هول ما يجري، فرغم الحراك والتظاهرات التي انطلقت في الشوارع العربية، فإنّه، وبكلّ وضوح، كان حراكًا ذا نفس قصير، بالنظر للحراك في الشوارع الغربية، بل وحتى في أميركا نفسها، وبالنظر لهول الإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني أيضًا. صحيح أنّ تلك الشعوب ترزح تحت أنظمة تقمعها وتمنع التظاهرات، وربّما تعتقل المتظاهرين، لكن ذلك لم يكن مبرّرًا لضعف الحراك. ودعونا هنا نتذكر أنّ السؤال عن الأمّة تجدّد مع الخذلان الكبير لغزّة، لكنه مطروح منذ تُرك أطفال سورية يتضوّرون جوعًا ويموتون بردًا في مخيمات اللجوء. وبالمناسبة هنا، فإنّ أطفال سورية لا يزالون على هذا الحال، وهناك أيضًا أطفال ونساء السودان، وقبلهم العراق، وقائمة الخذلان لا يمكن حصرها، ما يطرح سؤالًا مُلحًا عن "الأمة"، مفهومًا وتطبيقًا. 

التهديد الحقيقي الذي تخشاه الأنظمة العربية هو انتفاض شعوبها من جديد، وتجدّد تطّلع الشعوب للحرية والديمقراطية

 ومما كشفته حرب غزّة، أنّ بعض الأنظمة العربية ترى مفهوم الأمن في المنطقة من منظورٍ إسرائيلي، وتعتقد أنّ القضاء على المقاومة سيحقّق الاستقرار لنظمها، كما تعتقد أنّ تحالفها مع إسرائيل سيعزّز من فرص مواجهة التهديدات الإقليمية، وكسب ودّ ورضا أميركا، لكنّي أعتقد أنّ تلك الأنظمة، وإن كانت تبرّر تطبيعها بخشيتها من التهديد الإيراني، إلا أنّ الحقيقة أنّ التهديد الحقيقي الذي تخشاه هو انتفاض شعوبها من جديد، وتجدّد تطلّع الشعوب للحرية والديمقراطية. وما الحديث عن التهديدات الإيرانية سوى محاولة لذر الرمال في العيون، والدليل على ذلك أنّ التقارب بين نظم الثورات المضادة وإسرائيل تعمّق وتجذّر مع بداية الربيع العربي، حيث تعاونت تل أبيب مع تلك الأنظمة في مواجهة ثورات الشعوب العربية، وكان للطرفين مصلحة مشتركة في وأد ذلك الحراك، لأنّ تلك الثورات كانت ستُفضي إلى الديمقراطية التي ستُنهي أنظمة الاستبداد، والديمقراطية نفسها كانت ستأتي لو قُدّر لها النجاح بأنظمة وطنية، كانت بالضرورة ستعمل على تحرير فلسطين، ومواجهة المشروع الصهيوني السرطاني المزروع في خاصرة الأمة.

ومما أكدت عليه حرب غزّة ولم تُكشفه، هو تلك البطولات للشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة لمحاولات التركيع والتهجير والإبادة، وهي امتداد لأسطورة نضال وحركة تحرّر وطني سطّر فيها الشعب الفلسطيني أروع الأمثلة في البطولة والبسالة والتضحية والصمود، ودفع في سبيل ذلك أبهظ الأثمان بكلّ أطيافه وقواه وفصائله لأكثر من مئة عام، بمواجهة مشروع استيطاني استعماري إحلالي متوّحش. 

ومما كشفته هذه الحرب أيضًا، أنّ الشعب الفلسطيني لم يكن طوال كلّ تلك السنين يحارب إسرائيل وحدها، وإنّما كان يحارب الولايات المتحدة الأميركية والغرب الإمبريالي الذي يرى في إسرائيل قاعدة متقدّمة وحارسًا لمصالحه في المنطقة.

وأخيرًا، كشفت هذه الحرب أنّ إسرائيل ما هي إلا حاملة طائرات أميركية ودولة وظيفية، وأنّ الفلسطينيين هم أصحاب البلاد، ولن يرحلوا عنها، وحتى لو رُحّلوا مؤقتًا، وأنّهم اليوم رغم كلّ ما يعانونه (وهم يعانون ما لا يمكن تحمّله ولا تصوّره) متأكدون من أنّهم سينتصرون، مهما طال النزال، وأنّ هذه الحرب هي حلقة في حلقات هذا الصراع الطويل. ورغم وحشية الاحتلال، وكلّ البربرية التي أظهرها، فإنّ "المشاريع الاستيطانية الاستعمارية كلّما زاد توّحشها كلما كان ذلك دليلًا على قرب نهايتها"، كما يقول البروفيسور الشهير إيلان بابيه.

مدونات
مدونات

مدونات العربي الجديد

مدونات العربي الجديد
النصّ مشاركة في ملف| غزّة لحظة عالمية كاشفة، شارك معنا: www.alaraby.co.uk/blogsterms
C2A96DF8-EEBE-40B9-B295-1C93BEABA19C
محمد أمين
كاتب وإعلامي فلسطيني مقيم في لندن، أكمل الماجستير في الإعلام في جامعة برونل غرب لندن.عمل صحافياً ومنتجاً تلفزيونياً لعدد من البرامج التلفزيونية والأفلام الوثائقية لصالح عدد من القنوات العربية والأجنبية، يكتب حالياً في شؤون الشرق الأوسط ويختص في الشأن الفلسطيني.