ملف: قوة الاختلاف ومكافحة العنصرية في الثقافة العربية (29)
تعيش مجتمعاتنا اليوم في عصر مليء بالتنوّع والاختلاف الثقافي والعرقي، فالاختلاف هو مفتاح الحياة، وهو الذي يجعل العالم أكثر غنى وتنوعًا، لأن كلّ فرد في هذا الكون يحمل في داخله خصوصية فريدة تميّزه عن الآخرين. ومن خلال هذا الاختلاف، نعبّر عن خبراتنا وثقافاتنا المختلفة، وننمو ونتطور كأشخاص.
ولكن بالمقابل، لا يزال للعنصرية تأثيرها السلبي على حياتنا، فالتمييز والعنصرية مشكلة مستمرة وتكاد تكون يومية. وعلى الرغم من تقدّم المجتمعات في التحضّر والتقدّم التكنولوجي، لا يزال هناك تحيّز وتمييز تجاه الأقليات والأعراق المختلفة. ولهذا كله، فإنّ مكافحة العنصرية وتعزيز الاختلاف أمران ضروريان لنبني مجتمعاً أكثر عدالة وتسامحًا.
إحدى الساحات التي تؤثر بشكل كبير في تشكيل وجدان المجتمع هي الفنون، وخاصة المسرح والتلفزيون والسينما والأدب، فهي تعكس الثقافة وتعزّز الوعي وتجعلنا نتفكّر في قضايا العالم الحقيقية. وقد استُخدمت هذه الوسائل الفنية بشكل فعال للحديث عن قوة الاختلاف ومكافحة العنصرية.
يحمل تراثنا القديم سرديات عن كثير من القصص والتجارب العبقرية التي تطرح وتتعامل مع قضايا الآخر والتعايش مع التنوع
على سبيل المثال، إنّ الجسد الناطق (المسرح) يحطّم الحواجز ويكافح العنصرية في عالمه، وتكمن قوة الاختلاف هنا في قدرتها على تجاوز الحواجز اللغوية والثقافية والعرقية من خلال تقديم قصص وشخصيات متنوّعة على المسرح، بحيث يُمكن للمسرحيين استكشاف الهويات المتعدّدة وتعزيز التفاهم بين الثقافات المختلفة.
في المسرح أيضاً، شاهدنا العديد من الأعمال التي تسلّط الضوء على قضايا التمييز والعنصرية. واحدة من أبرز هذه الأعمال هي مسرحية " قلاقل جميل وهيام" للكاتب هاني سلّوم، والتي تناولت علاقة حب بين فتاة مسلمة وشاب مسيحي، حيث المجتمع مقيّد بالعادات والتقاليد والعنصرية التي تعشعش في دواخلنا، إذ أظهرت المسرحية كيف يتعرّض الأفراد للعنصرية على أساس الدين.
كما أنّ الفنون المرئية، أي الشاشة المتلألئة، مثل التلفزيون والسينما، تلعب دورًا حاسمًا اليوم في نشر الوعي بالتحديات التي تواجهها المجتمعات المتعدّدة الثقافات. فمن خلال عرض الأفلام الوثائقية والسلاسل التلفزيونية التي تركز على العنصرية والتعايش الثقافي، يمكن لهذه الوسائل أن تلقي الضوء على المشاكل والتحديات وتساهم في إلهام المجتمعات للتغيير والتفاعل الإيجابي لنتمكن من فهم الأدوار التي نلعبها نحن جميعًا في تشكيل المجتمع.
وبصفتنا مجتمعًا عربيًا، فإنّ تراثنا القديم يحمل سرديات عن كثير من القصص والتجارب العبقرية التي تطرح وتتعامل مع قضايا الآخر والتعايش مع التنوع.
وإذا ما ذكرنا هذه الفنون (سينما وتلفزيون) اليوم، فلا يمكننا إلا أن نتذكر أنّ العنصرية دخلت أيضا في هذه المجالات. ففي الماضي كان هناك تحيّز واضح وتمييز ضد العاملين في وسائل الإعلام والفنون المختلفة، إذ كانت نوعاً من التابوهات الممنوع الحديث عنها أو حتى المشاركة فيها، ويتسم أي شخص عامل فيها بوصمة عار. ولكن، مع تطوّر المجتمعات وزيادة الوعي والتبادل الثقافي، ظهرت مساحة لتمثيل هذه الأصوات والقصص المختلفة التي عايشوها.
مكافحة العنصرية وتعزيز الاختلاف أمران ضروريان لنبني مجتمعاً أكثر عدالة وتسامحاً
ففي السينما والتلفزيون اليوم، يمكننا العثور على أمثلة عديدة على كيفية تمثيل الآخر وتقديمه بصورة إنسانية وسلسة، بحيث يتم تجسيده في هذه الأعمال الفنية عبر الشخصيات والقصص التي تتعامل مع تحديات الاندماج والتعايش في مجتمعات مختلطة العادات واللغة والمفاهيم والأديان والفكر.
على سبيل المثال، نستعرض بعض الأعمال السينمائية التي تناولت قضية العنصرية بشكل ملموس وقوي مثل "ثقوب في الثوب الأسود " لإحسان عبد القدوس، هذه الرواية التي تحوّلت فيلماً يحكي قصة شاب موهوب يتعرّض للتمييز والظلم بسبب لون بشرته، لأنه ولد لأب أبيض وأم زنجية. ومن خلال هذا الفيلم، يتم توجيه رسالة قوية حول أهمية قبول الآخر دون النظر إلى العوامل الخارجية. بالإضافة إلى ذلك، هناك أفلام تسلّط الضوء على تجارب الأفراد الذين يعيشون في ثقافات مختلفة مثل فيلم "المؤسسة" الذي يتناول قصة طالب مسلم يواجه التحديات والتمييز في بيئة غربية.
وإذا ما تطرقنا لروح الورق أيضا، أي الأدب، فهو يروي قصصاً قوية لمواجهة العنصرية، حيث يمكن اعتبار الروايات والمقالات والشعر منارات تنير طريقنا نحو فهم أعمق للقضايا الاجتماعية. فجريمة الكتابة تسكب النور على قصص الأشخاص المهمّشين والمظلومين، وتعكس أهمية قوة الاختلاف والعقيدة بالمساواة والعدالة في المجتمع.
من خلال تغيير الفكر ونشر الوعي، يمكننا بناء سوية أفضل لجميع أفراد المجتمع، لنعيش معًا في عالم أكثر تعاونًا وسعادة
ويمتلك الأدب القدرة على رواية القصص القوية التي تجذب اهتمام القرّاء، ويمكن أن يلهم ويغيّر نظرة الناس تجاه الاختلاف ويعزّز القدرة على التفاهم والتعايش. ومثالاً لذلك، رواية "لأني أسود" لسعداء الدعاس، والتي تحكي قصة شاب يعمل بجد واجتهاد، ولكنه يُعامل بتمييز واضطهاد لأنه أسود البشرة، فتوّضح الرواية الظلم الذي وقع عليه، ومعاناته المستمرة لأنهم اعتبروه مختلفاً عنهم.
إنّ قوة الاختلاف ومكافحة العنصرية في حياتنا اليومية وفي المسرح والتلفزيون والسينما والأدب، لها تأثير كبير في دعم رسالة العدالة والمساواة والتسامح. وعندما نتعلم أن نحترم ونقدّر الاختلاف، نبني مجتمعًا أكثر تعاونًا وتفهمًا.
لذلك، دعونا نستخدم هذه الفنون المميّزة لنتحدث بقوة ضدّ التمييز والعنصرية، ونعزّز التسامح والاحترام المتبادل في حياتنا، وفي المجتمع ككل.
فقط، من خلال تغيير الفكر ونشر الوعي، يمكننا بناء سوية أفضل لجميع أفراد المجتمع، لنعيش معاً في عالم أكثر تعاوناً وسعادة.