ملف: في مصادر ثقافة الكراهية (28)
أصبحنا نلاحظ على المستوى العربي، أيضاً، عنصرية "كامنة غير موعى بها، يمارسها المرء دون أن ينتبه لنفسه، ولكنها تشكل في نهاية المطاف جزءاً من ثقافة الكراهية ضد الآخر". ("العربي الجديد"، ملف "ثقافة الكراهية عربياً").
هذا الأمر يفرض علينا طرح مجموعة من التساؤلات، نذكر من بينها التساؤل التالي: "من أين تستمد العنصرية وثقافة الكراهية خطابها ومفرداتها؟ هل من ثقافتنا المجتمعية أم من خطابنا السياسي؟".
سأحاول في هذه المقالة الاكتفاء ببعض العناصر التي قد تساعد على مقاربة هذا السؤال المطروح، وبالتالي الاقتراب ما أمكن من فهم بعض مصادر ثقافة الكراهية عندنا.
يمكننا الاقتصار، في هذا الصدد، على مَصدرين رئيسَين على الأقل يُدعّمان الأساس الذي يقوم عليه كلّ نزوع عنصري تجاه الغير، سواء أكان قريباً (حالة لبنان أو تركيا مع اللاجئين السوريين) أم بعيداً (حالة تونس أو البلدان المغاربية الأخرى مع الأفارقة جنوب الصحراء).
المصدر الأول يرتبط بوجود اتجاه عام وتلقائي داخل النفس البشرية يَنزع إلى رفض ولفظ كلّ ما هو غيرها، وهو ما يشكل الأساس الكامن الذي يُمهّد لأيّ شكل من أشكال الكراهية تجاه المختلف، وهذا ما تُخبرنا إيّاه النفسانيات المعاصرة كما هو الشأن عند مؤسّس علم النفس، سيغموند فرويد، في تحليلاته حول العلاقة بين السيكولوجيا والأخلاق الفردية والجماعية، معتبراً أنّ البشر، داخل مجموعة معيّنة، يُمْكن لهم أن يتبادلوا الشعور بالحبّ في ما بينهم، شريطة وجود مجموعة أخرى تكون موضوع كراهيتهم. هذا التحليل هو نوع من "التمطيط" لحبّ الذات الغريزي، ليشمل مجالا أوسع وأرحب، أي حبّا من نوع آخر يكون بين مجموعة تقوم على كراهية الآخرين من غير أعضائها، ذلك أنّ حبّ المجموعات/المجتمعات المختلفة لبعضها البعض هو شعور نادر، كما يقول الفيلسوف الفرنسي، جان جاك روسو، لا يَحصُل إلا داخل "الحالات الكوسموبوليتية"، وهي قليلة العدد قياساً على القاعدة العامة. هذا الأمر هو الذي دعا فرويد، إلى القول إنّ أحسن طريقة للخروج من إغراءات أهوائنا الغريزية هي الوعي بها والإقرار بقوّتها الجامحة، أي أنّ الاعتراف بأهوائنا هو شرط الاعتراف بالآخرين، إذ من المستحيل، حسب عبارة الفيلسوف الهولندي، باروخ سبينوزا، هزيمة الانفعالات السلبية (الكراهية) دون أن نضع في مقابلها انفعالات إيجابية (الاعتراف).
يبدو، وكأنّ الأهواء الغريزية تنتقم من المسيرة العقلانية للإنسان، والتي سَعت إلى احتوائها، على مرّ العصور، بواسطة إبداعات العقل الإنساني
المصدر الثاني يتعلّق بحاجة المجموعات البشرية إلى وضع سياج حول انتماءاتها الثقافية ومؤسّساتها الاجتماعية وما تحمله من دلالات رمزيّة وتاريخية بالنسبة لها. هذا الإغلاق والتسييج أمام الوافد العرقي، أو الديني، أو الطائفي، أو القومي، أو الثقافي عموماً، هو الذي يسمح للخطاب السياسي، في بعض الأحيان، بتوظيف تلك الحاجة المذكورة إلى "التسييج"، وتحويل مجراها في شكل انفعالات سلبية تأخذ طابع كراهية عنيفة، إما تجاه الخارج، كما في حالة الحروب، وإما تجاه كبش ضحيّة داخلي، كما تجلّى ذلك، شعورياً أو لاشعورياً، في كلام الرئيس التونسي، قيس سعيّد، الذي تحدّث فيه عن أنّ "الهدف غير المعلن للموجات المتلاحقة من الهجرة غير الشرعية هو اعتبار تونس دولة أفريقية فقط، لا انتماء لها للأمّتين العربية والإسلامية"، وأنّ هناك "ترتيباً إجرامياً تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس"!.
بالرّغم من أنّ مِثل هذا الكلام الانغلاقي، أو لنقل "التسييجي"، القائم على الخوف من الأجنبي، وباسم حماية الانتماء والهوية، لم يعد ممكناً في عصرنا بسبب الثورة المذهلة في تكنولوجيا الإعلام والاتصال التي باتت تمنع كلّ "انطواء ثقافي" على الذات، إلا أنه مع ذلك، يبدو أن لا حيلة لنا أمام اتساع دائرة ثقافة الكراهية هذه، لأنّ الإعلام، في عالم اليوم، أصبح يُفاقم الانقسام والتشتّت والتشظّي بسبب تنوّع وتعدّد مصادر التنشئة الذهنية والفكرية والذوقية للأفراد داخل أيّ مجتمع، الأمر الذي يُدخل في صُلب المجتمعات نفسها صراعات مُغذِّية لثقافة الكراهية، أو لنقل الكراهية عن بعد التي لا تمكن مراقبتها أو التحكّم فيها، مما يُشكل دوائر متزايدة من "التماهي" و"التماهي المُضاد" الذي يسعى، في النهاية، إلى "التسييج" من جهة، وإلى شيطنة الخصم القريب الموجود بين ظهرانينا من جهة أخرى. هذا النوع من "التماهي"، يشكل مصدراً مُتجدّداً ومُغذّيا لثقافة الكراهية باستمرار... كراهية لا تكاد تخفت، خلال فترات معينة، حتى تنبعث من جديد مع كلّ مناسبة مواتية.
يبدو، وكأنّ الأهواء الغريزية تنتقم من المسيرة العقلانية للإنسان، والتي سَعت إلى احتوائها، على مرّ العصور، بواسطة إبداعات العقل الإنساني، كالفلسفة والعلم والقانون... لكن هذه الأهواء بدأت تنتقم من خلال ما نشاهده من إحياءٍ، في مجالات عدّة، لأكثر الغرائز بدائية وابتعاداً عن العقل، وخاصة غريزة الكراهية المقيتة للآخر المختلف، والتي قد تنفلت في أيّ لحظة من عقالها، وتضعنا من جديد أمام صور من الدم المسفوح على الأرض، ومن الأشلاء الأدمية المُمزّقة بدم بارد على الشاشات!