ملف| غزّة... مرآة الحقيقة (17)
تستمر الحرب الجائرة على قطاع غزّة ومعها تستمر الحقائق في الطفو على سطح الواقع، فتتبدى الخبايا ويظهر الأصل بلا زيف أو خداع. تستمر فصول حرب غزّة بكوارثها المؤسفة ومجازرها التي فاقت التصور لتُرِي العالم وجه الإرهاب المقنن الذي يمارسه الكيان الصهيوني وداعموه. تستمر حرب الإبادة والتطهير العرقي بجميع جوانبها المظلمة ومعها يستمر سقوط الأقنعة والسرديات، كاشفة بذلك عن مدى اتساع الهوة الفاصلة بين الفعل والقول..
فمع مرور الأيام كشفت لنا هذه الحرب عن بُطلان سرديات عدّة ظلت راسخة في ذهن الكثيرين ردحاً من الزمن، منها أسطورة الجيش الذي لا يُقهَر، وقد رأينا انكساراته أمام مقاومة شعبية محدودة العدة والعتاد؛ فلم يجد وسيلة غير التنكيل بالمواطنين العزل قصفاً وقتلاً واعتقالاً ليمحو عن وجهه آثار الخيبة والخذلان. ومنها أسطورة القبة الحديدية والتي أثبتت فشلها هي الأخرى أمام رشقات المقاومة الصاروخية.
ومن السرديات التي سقطت سقوطاً مدوياً هي سرديات القانون الدولي الإنساني وقوانين حقوق الإنسان وحق تقرير المصير وحرية الرأي، بعد التغاضي عن انتهاكات الاحتلال المتواصلة لجميع أنواع جرائم الحرب، فضلاً عن استخدام القوة لقمع المواكب التظاهرية المؤيدة لفلسطين بالخارج، لتظهر لنا ازدواجية المعايير بصورة واضحة جلية، وإن كان الأمر ليس بجديدٍ علينا وإنما هذه المرة سقط عنها الستار بكلياته وانكشفت للجميع.
وقد رأينا حجم الدمار الذي ما زالت تخلّفه هذه الحرب، وما تميزت به من غارات أكثر ضراوة وفتكاً برصيد يفوق رصيفاتها من الحروب التي شهدها إقليم غزّة المتأزم وجرائم حرب تفوق ما سبقها من جرائم إرهابية بحق هذا الشعب المكلوم. وأعزو سبب ذلك لقوة الصفعة الأخيرة التي تلقاها الاحتلال من قبل حماس هذه المرة وقد زاد انفتاح هذا العصر من تأثيرها، فحاول الاحتلال مداراة آثار هذه الإهانة التي لحقت به بشن مخالبه في وجه شعب أعزل، وبالمرة وجد فيها ذريعته لما يُضمِر من إبادة وتهجير؛ إذ يظهر ذلك من خلال الأسلوب الذي انتهجه في إدارة هذه الحرب وتبنّيه لسياسة الأرض المحروقة باستهدافه للحجر والبشر، ومن ثم تكثيفه لوتيرة القتل والتدمير بصورة كارثية، ضارباً بجميع سرديات القانون الدولي الإنساني عرض الحائط، لكونه يعلم تماماً بأنه من الفئة التي لا يسري عليها القانون!
في هذه المحرقة المعاصرة، رأينا كيف يتم تقنين الظلم، إذ تم دعم الاحتلال مادياً بالإضافة لمنحه الضوء الأخضر لعملياته الإجرامية، في حين لم تحصل غزّة سوى على بعض الكلمات والوعود الخاوية والتي لا نفع لها أمام قعقعة السلاح، فضلاً عن وصم مقاومتها بالإرهاب ومحاولة تجريدها منها. إذ لا يزال هنالك تبنّ للرواية الصهيونية، والتي يُظْهِر فيها الصهاينة أنفسهم بثوب الضحايا، رغم اختلاف المعطيات على أرض الواقع.
ومن السرديات التي سقطت سقوطاً مدوياً هي سرديات القانون الدولي الإنساني وقوانين حقوق الإنسان وحق تقرير المصير وحرية الرأي
الأمر الذي أدى لظهور المغالطات، فالأنظمة الغربية ترى حماس جماعة إرهابية ولا ترى إرهاب جيش الاحتلال بحق المدنيين في غزّة، ناهيك عن الدعوة الصارخة للإرهاب والتي تمارسها نخبة من اليمين المتطرف أمثال بن غفير وغيره. تلك الأنظمة ترى أن حماس أخطأت بأسر مستوطنين من غلاف غزّة، رغم كونهم مجرمين لوجودهم على أراض لم تكن لهم واحتلالهم لمنازل غيرهم، ورغم أن حماس قامت بمعاملتهم بما يقتضيه الشرع والعرف والقانون، وبشهادتهم هم أنفسهم. لكنها لم تجرّم الاحتلال على تشريده للسكان الأصليين في تلك المناطق وقتلهم واعتقال الكثير منهم قبل أحداث 7 أكتوبر حتى!
فهل يمكن للمقاومة السلمية أن تُجدي نفعاً مع نظام غاشم كهذا؟ نظام يستهدف حتى المدنيين الفارين من جحيم الحرب بل واستهدف حتى أفراده من الأسرى؛ إذ هدفه الإبادة العمياء، فكيف يُميّز مَن هدفه الإبادة؟!
نظام يستثمر في قضايا فصل عنصري تعرض لها أسلافه ومحرقة حدثت منذ زمن بعيد من أعداء مختلفين على أراض مختلفة ليس لفلسطين أي دخل به، رغم ذلك لا ينفك عن استجلابها وإقحامها في حبكات واهية لتبرير تعديه السافر وارتكابه للمجازر الحالية والتي تفوق تلك التي تعرض لها ضرراً وجسامة. والأسوأ من هذا يطلق الروايات المضللة والقصص المكذوبة ليستدِرّ عطف المجتمع الدولي ويكسب تأييده في دفاعه المستميت عن أرض ليست له بالمرة. وليت الأمر يقتصر على النظام الحاكم فقط وإنما الأغلبية الساحقة من المستوطنين الصهاينة لهم عقلية متصلبة عندما يتعلق الأمر بفلسطين، مما يؤكد نزعتهم العنصرية.
حماس وعت وأدركت هذا جيداً، فكان خطابها مقروناً بفعل السلاح وغرضها من أسْر المستوطنين هو لليّ ذراع الاحتلال، لاسترداد المواطنين الذين ظلوا في زنازين الاحتلال سنوات طويلة، وما كنت أظنهم عائدين بغير ذلك.
يظهر من فحوى هذه الحرب وما تحمله من دمار وضغائن أنها على وشك تغيير الكثير، ليس فيما يخص تاريخ القطاع وحسب بل المنطقة ككل، وإن كان يصعب التكهن بنتائج دقيقة بشأن المستقبل. ولا تزال الفرصة مواتية للقوى العربية لتوحيد صفها وصنع قرار فاصل، فأي تهاون في التعاطي مع هذه الأزمة الراهنة ستكون له نتائج وخيمة على الجميع ولو بعد حين، إذ إن وجود الكيان الصهيوني في هذه البقعة من الأرض يهدد منطقة الشرق الأوسط بأكملها، لتاريخ هذا النظام الدموي وعدم اعتداده بحدود واضحة لبلادهم المزعومة. مما يؤكد أن الحل الوحيد هو اقتلاع هذه العصابة من جذورها أو الدفع لذلك ما استطاعوا سبيلاً. وهذا القرار على صعوبته إلا أنه الحل الوحيد وما دون ذلك لا يعدو سوى محض استهتار بالعقول، فقرار حل الدولتين ليس تطبيقياً، ثم كيف به والاحتلال يفصل فلسطين إلى نصفين! أما قرار جعلها دولة مواطنة موحدة، فليس سوى محاولة لابتلاع فلسطين وصهرها داخل الكيان الصهيوني.