ملف| غزّة حرب عادلة (6)
تحتلّ الحرب التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزّة موقعها كحدث مفسّر لفلسفة الحرب التاريخية وتضارب مناهجها وتطبيقاتها في الحاضر، فلسفة ذات مشاهد أربعة؛ الأميركي، الأوروبي، العربي الإسلامي، العاقل الدولي. ما يطرح علينا تحدّيات عملية وفكرية كثيرة، يتجلّى بعضها في محاولة إسقاط فلسفات الحرب التاريخية على المشاهد الأربعة، مع محاولة لإرساء قطر عالمي عاقل يراعي الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان، وحقّ تقرير المصير.
وعلية، استناداً لما تفرضه علينا اللّحظة، نطرح أربع نظريات في أخلاقيات السلم والحرب (ذُكرت في الموسوعات السياسية)، والتي تسيطر على المشاهد التي ذكرناها أعلاه: الواقعية، والسلمية، والأخلاقية، والحرب العادلة. ومن دونها لن نتمكّن من فهم المشهد الفوضوي الذي نشهده حاضراً والآن.
المشهد الأميركي/ الإسرائيلي
تُبنى النظرية الواقعية من خلال الدعم الغربي لإسرائيل، وتحريك حاملات الطائرات وفتح مستودعات الأسلحة لها. تفترض هذه النظرية أنّ العلاقات الدولية عبارة عن صراع من أجل القوة لتعزيز مصالح كلّ دولة بشكل منفرد، فترى أنّ الحرب ضرورية من أجل الدفاع عن الوطن من خلال تحقيق منافعها المباشرة وغير المباشرة، سواء كانت حرباً دفاعية أو هجومية، ولا يهمّ نوع الوسائل المستخدمة أو طبيعة تلك الحرب، فهنا يكون الحديث عن واقعية مطلقة تنكر أيّ ارتباط بين الحرب والأخلاق ما يعيدنا إلى سياقات استعمارية قديمة.
المشهد الأوروبي/ الإسرائيلي
جاء في مقدمة الملف أنّ "ثمّة لحظة مشرقة، تتجلّى بتوسّع التضامن مع القضية الفلسطينية أكثر من أيّ وقت، من خلال المظاهرات والفعاليات التي شهدتها مدن وعواصم أوروبية كثيرة". هذا الأمر يطرح أسئلة كثيرة عن جباية الضرائب وعوائدها بحجّة "جعل العالم مكاناً أفضل"، وإذ تكتشف الشعوب الأوروبية أنّ ضرائبها تذهب مباشرةً إلى تمويل الحرب، والتي لن تجعل العالم مكاناً أفضل بالتأكيد، ما أدّى إلى كسر السردية الأوربية - الإسرائيلية حول فلسطين لصالح سردية جديدة باتت تطرح نفسها عالمياً لتغيير السياسات الأوروبية في ما يخصّ فلسطين، وهي النظرية السلمية حيث ترفض هذه النظرية الحرب بشكل جذري، ولا تعترف بوجود حرب عادلة أو غير عادلة، فالحرب حرب ما دامت تحصد أرواحاً، ولا يهمّ إن كان هناك هدف عادل أو سبب عادل.
المشهد العربي والإسلامي
أيضاً، جاء في مقدمة الملف: "يبدو النظام العربي والإسلامي متهالكاً وشائخاً وعاجزاً عن القيام بشيء يذكر، كما تبدو الشعوب العربية مغلولة اليد وضعيفة التأثير". وهنا ثمّة تناقض حاد فيما يطلبه هذا المشهد؛ فهو من شدّة ضعفه وارتهانه للغرب، لا يطالب بوقف الحرب بصورة مطلقة بل يطلب مطلباً مستفزّاً؛ أن تكون الحرب أخلاقية! حيث يؤيّد النظرية الأخلاقية في الحرب، ولكن لا بدّ من التقيّد بالضوابط الأخلاقية في استعمال الحرب دون إلحاق الضرر بالمدنيين والأبرياء، فمن غير الممكن منع الحرب بشكل نهائي، لأنّه توجد حسابات ومصالح سياسية عربية موافقة للغرب، ويمكن استخدام القوة والفتك من أجل إطاحة العدو وهو "حماس" في هذه الحالة. وما دام الهدف عادلاً من وجهة نظر هذه الدول، أي "القضاء على المقاومة الإسلامية في العالم العربي" لارتباطها بإيران من أجل التخلّص من أذرع الأخيرة في المنطقة العربية، مع العلم أنّ حماس لا تتّفق مع إيران في الجانب العقدي والحلم الإيراني (الهلال الخصيب)، بل تتّفق معها في الجانب العسكري حصراً من حيث التمويل وتصدير السلاح لمقاتلة العدو بعدما تخلّت الأنظمة العربية عن المقاومة.
مشهد العاقل الدولي
جاء في مقدمة الملف أن "ثمّة حديثاً مكثّفاً عربياً عن إدانة لحركة حماس بسبب قيامها بعملية طوفان الأقصى". إنّ هذه الإدانة تزجّ بالحديث العربي في مصطلح "لوم الضحية"؛ ويقصد به إلقاء اللّوم على الضحية عندما تكون ضحية جريمة، أو أيّ فعل غير مشروع، ويتمّ تحميل الضحية المسؤولية كلياً أو جزئياً عن الضرّر الذي لحق بها، رغبة في التملّص من مسؤولية إنقاذها، وذلك عن طريق مغالطة عقلية تفترض أنّ العالم لا بدّ له أن يكون عادلاً كما هو بمعزل عن تصرّفاتنا، إذ إنّ أيّ تصرّف من قبلنا يقلب الطاولة علينا، بدلاً من معالجة القضية من جذورها. ونتيجة لهذه السردية نشأ تأييد عالمي عاقل لنظرية الحرب العادلة، وهي ضمان أنّ حرباً ما يجب أن تكون مبرّرة أخلاقياً من خلال "الحق في شنّ الحرب".
وتعني "الحرب العادلة" البحث عن مجموعة من الأسباب العادلة والمشروعة لإعلان حرب ما لمواجهة الخصوم دفاعاً عن قضية عادلة (الاحتلال الإسرائيلي)، أو من أجل هدف مشروع يتمثّل في صدّ عدوان أو مواجهة الظلم والإرهاب (الحصار الشامل)، وهي تضفي الطابع الديني والشرعي والأخلاقي على الحرب التي تخوضها دولة ضدّ دولة أخرى. وبشكل عام يتحدّد مفهوم الحرب العادلة بالنسبة لتوما الإكويني، انطلاقاً من شروط محدّدة وهي:
السبب العادل: أي أن يكون هناك مبرّر عادل لشنّ الحرب (اغتصاب الأرض الفلسطينية).
الملاذ الأخير: أي أن تكون الحرب آخر وسيلة تلجأ إليها الدولة بعد استنفاد كلّ الوسائل السلمية لشن الحرب أولاً (المفاوضات والاتفاقات الدولية التي لم تجدِ نفعاً).
الحرب حرب ما دامت تحصد أرواحاً، ولا يهمّ إن كان هناك هدف عادل أو سبب عادل
التناسب: أي أن تكون المنافع التي يمكن أن تُنتج من وراء شنّ الحرب أكبر على نحو معقول من الخسائر التي يمكن أن تنجم من شنّ الحرب (عرقلة التطبيع، وكسر السردية الأحادية للرواية الفلسطينية، وهزيمة نموذج القوة الوهمي).
التيّقن من النصر: أن يكون هناك قدر معقول من النجاح من وراء كسب الحرب (فعالية الأنفاق وحديث عن حلّ الدولتين).
الوسائل المشروعة: أي أن تكون الوسائل المستخدمة منذ اندلاع الحرب وحتى هزيمة الخصم شرعية وعادلة (مقذوفات محليّة الصنع وقتال في العراء).
حصانة غير المقاتلين: أي عدم استهداف المدنيين أثناء الحرب (أسرى عوملوا بإنسانية بناءً على شهادتهم، وكان ذلك ضرورياً للتفاوض على أسرى بالمقابل).
في حوار مع الفيلسوف السياسي الأميركي، مايكل والزر، عن نظرية الحرب العادلة، يقول "إنها في غاية البساطة؛ ذلك أنّ نظريتي تَنْبَنِي انطلاقاً مما أسميه بـ"المماثلة المنزلية"، والتي تبعاً لها، إن كُنتُ في نزهة على الطريق وقام شخص ما بالاعتداء عليّ، عندها نكون، بشكل مُصَغَّر، أمام حرب غير عادلة أو ظالمة، أمَّا إن أنا دافعت عن نفسي في مواجهة هذا الاعتداء، فإنّ ذلك هو ما يُشكّل، ودائماً على نحو مُصَغَّر، حرباً عادلةً". والآن لو قمنا بتوسيع هذين المثالين ليشملا المستوى الدولي، سيكون المثال النموذجي لحرب عادلة بين فلسطين وإسرائيل، يقدِّمه البلدُ الذي يدافع عن نفسه في مواجهة اعتداء أو عُدْوان، وبهذا المعنى دافع الفلسطينيون عن أرضهم.