أزمة التعليم المتمركِز على الطالب
لا شكّ أنّ دخولَ التعليم الخاص حيّز التنفيذ أضاءَ شعلةَ أملٍ كبيرة في ميدان التربية والتعليم، ولكن مع مرور الوقت حصدنا نتائج غير تلك المأمولة. فعلى سبيل المثال، صارَ من الواضح جداً أنّ التعليم المعاصر أنشأَ جيلاً وقحاً متمرّداً لا يعرف الاحترام، ولا مهابة لشخص الأستاذ ومركزه في المجتمع.
التعليم الخاص تعليم متمركز حول الطالب، أي وضع احتياجات الطالب واهتماماته في قلب عمليّة التعليم. وهذه الفردانية التي يخلقها التعليم تؤسّس لمواطنٍ أنانيّ غير مسؤول اجتماعياً، ويقدّم مصلحته على الصالح العام.
إنّ المجتمعات التي تتبنّى هذا النهج في التعليم قد تواجه تحديات كبيرة في المستقبل، مثل انخفاض مستوى المشاركة المدنيّة، وتراجع الثقة بين الأفراد. علاوة على ذلك، فإنّ هؤلاء الطلاب الذين يعتادون الحصول على ما يريدون دون جهدٍ حقيقي قد يجدون صعوبة في التأقلم مع متطلّبات سوق العمل الصارمة، حيث يُقدَّر العمل الجاد، والانضباط، والالتزام.
يركّز التعليم الخاص على تلبية احتياجات الطلاب ورغباتهم الفرديّة، ما يؤدّي إلى تهميش المواضيع الأكاديمية الصارمة التي تحتاج إلى جهدٍ وانضباط. وبدلاً من تعزيز التفكير النقدي والتعمّق في الموضوعات، نجد أنّ الطلاب يتجهون نحو السهولة والمواضيع التي لا تتطلّب الكثير من الجهد العقلي. هذا التوجّه يؤدّي في النهاية إلى ضعف الخلفيّة المعرفيّة للطلاب وقلّة مهاراتهم في التحليل والنقد، ما يجعلهم أقلّ جاهزيّة لمواجهة تحدّيات الحياة العمليّة والأكاديميّة مستقبلاً.
تنمو أجيال جديدة تفتقر إلى القيم الاجتماعيّة الأساسيّة مثل التعاون، الاحترام المتبادل، والمواطنة المسؤولة
ويساهم التعليم المتمركز حول الطالب في خلق تحدّياتٍ سلوكيّة ومشاكل اجتماعيّة. فعندما يُعامل الطالب على أنّه محور العمليّة التعليميّة، وتُلبّى رغباته واحتياجاته باستمرار، يتربّى على الشعور بالاستحقاق والأنانيّة. هذا الشعور يمكن أن ينتقل إلى سلوكيّاتٍ يوميّةٍ تؤثّر سلباً بتفاعلاته الاجتماعية، حيث يصبح الطالب أقلّ تقبّلاً للنقد وأقلّ استعداداً لتحمّل المسؤولية أو العمل الجماعي. هذا النموذج التعليمي قد يؤدّي إلى انعدام التوازن في المجتمع، وقد تنمو أجيال جديدة تفتقر إلى القيم الاجتماعيّة الأساسيّة مثل التعاون، الاحترام المتبادل، والمواطنة المسؤولة.
التمركز هذا جعل من الطالب أساساً للعمليّة التربويّة، ولكن هذا الأساس غير دقيق، فالعملية التربوية وحدة متراصّة؛ انسجام الكلّ مع الأجزاء، لتؤسّس لعملية تربوية شاملة، ولكن أبداً لا يكون عنصراً فيها هو أساس العملية، بل كلّ العناصر على قدرٍ متساوٍ من الأهميّة.
لا يمكن إنكار أنّ التعليم المُتمركِز حول الطالب قد حقّق بعض الفوائد، مثل تحسين تفاعل الطلاب وزيادة مشاركتهم في العملية التعليمية. ومع ذلك، من الضروري إعادة التوازن إلى العمليّة التعليميّة لضمان تحقيق أهدافها الأساسيّة. يجب تعزيز دور المعلّم قائداً وموجّهاً أكاديمياً، والحرص على تزويد الطلاب بتعليم ذي جودة عالية يستند إلى معايير أكاديميّة صارمة. يجب أيضاً تشجيع الطلاب على تطوير مهاراتهم في التفكير النقدي والتحليل، بدلاً من التركيز فقط على إرضاءِ رغباتهم الآنيّة. وهذا يتطلّب تعاوناً بين جميع الأطراف المعنيّة، بما في ذلك صنّاع السياسات التعليمية، الإدارات المدرسيّة، المعلمين، وأولياء الأمور، لضمان تحقيق تعليم شمولي ومتوازن يحقّق مصلحة الطلاب والمجتمع ككل.
لا شيء يعيدُ للأستاذ كرامته الأكاديمية سوى استعادة التعليم الرسمي، ودعمه وتطويره كي يجاري العصر. التعليم الخاص بأكثريته يبدأ نظرياً بشكلٍ جيّد ثمّ يتحوّل ضمنيّاً إلى نوعٍ من الأعمال التجارية، يقوم على إرضاء وتملّق التلاميذ والأهل، بدلاً من وجود رؤيّة ورسالةٍ تربويّة، وذلك على حساب الأساتذة الذين يُدجّنون مع الوقت، فينالون مجدَ البقاء ورضا صاحب العمل (الانسجام مع قيم العمل التجاري)، في ظلّ غياب نظام محترم وموضوعي. أمّا غير القابلين للتدجين (الأحرار) فيُلفَظون خارج المنظومة (غير المنظّمة)، بغضّ النظر عن الكفاءة أو العطاء.