ملف| سؤال فلسطين في ثورة يناير المصرية (2)

04 يناير 2024
+ الخط -

هي لحظة جيلنا الأثقل على الإطلاق، نظرًا لما يحدث بلا توقّف في قطاعنا المغدور/ الصامد، لكنّها لمصادفةٍ ما لحظة تكشّفٍ لما جرى قبل اليوم بأكثر من عقد، لا في ميدان التحرير وحده، بل في عواصم عربيّة كثيرة خطت أولى خطواتها نحو الحريّة قبل أن تُوأد الرحلة والمرتحل.

نقرّ بهزيمة الثورة على وجهٍ ما، كما نُقرّ بكونها مسعىً لا ينتهي ما بقي واحدٌ يؤمن به ويسعى لتحقيقه. لكنّنا كذلك نقرّ بمكاسب لا تُمحى، كأنّما انتزعناها لنتذكّر ونذكّر، أنّ المستحيل ممكنٌ لو بقينا على طريقه.

واحدة من هذه المكاسب: محو خطيئة كامب ديفيد، وإنزال علم العدو الذي ظلّ يرفرف على ضفّة النيل منذ وُقِّعت الاتفاقية المشؤومة، بعد اقتحام السفارة الإسرائيلية ورفع علم فلسطين مكانه كما يليق في الخروج الأوّل من حيّز ميدان التحرير (سبتمبر/ أيلول 2011) بدعوة من حركة شباب الثورة العربيّة وعدد من مكوّنات ائتلاف شباب الثورة، رغم التحذيرات والتهديدات المتصاعدة من المجلس العسكري وأجهزة الدولة المختلفة.

سيتحامق البعض ويرمون هذه الخطوة بالسذاجة أو التهوّر، لأنّها (كما يقولون) فتّحت أعين الغرب على خطورة هذا التوجّه، على مصالحهم وربّما وجودهم، مما استدعى حسم إنهاء المعركة لصالح فئةٍ أكثر "تعقّلاً" وقابليّة للبقاء تحت الأسقف (ولو كانت بالشراكة بين الرجعيتين اللتين قامت الثورة في وجههما، والقبول بإعادة إنتاج ما قمنا للتخلّص منه، لكن بأقنعة مغايرة إلى حين).

فتحت ثورة يناير المعبر وجعلت الطريق لفلسطين (ذهاباً وإياباً) شيئاً يوميّاً معتاداً، رغم العوائق التي حاولت الأجهزة وضعها مع كلّ خطوة

لكنّني أنظر إليها الآن (كما وقتها)، بأنّ الثورة كانت منذ اللحظة الأولى، تعرفُ عدوّها كما تعرف غاياتها، وترنو إلى فلسطين، كما تخطو في مصر، تحقيقًا لشعارها الأبرز "علشان نحرّر القدس.. لازم نحرّر مصر"، إدراكًا منها ومن طليعتها أنّه لا تحرّر من الاحتلال إلا بالتحرّر من القيود التي وضعها هو، بيد معاونيه وخَدَمِه على الكراسي العربيّة، حفاظًا على مصالحهم وتحقيقًا لأغراضهم، لا "القمع التقليديّ" بالسجون والهراوات وحدها، إنّما بإغراق المجتمعات المناهضة في الجهل والتخلّف والفقر، كما المرض والاستهلاك.

ليس عجزًا عن القيام بدورٍ هم قادرون عليه لو أرادوا، إنّما لأنّهم لم يريدوا أصلاً، أو كانت مراداتهم مناقضةٌ لما ادّعوا وراج عنهم، لكنّهم في كلّ اختبارٍ وطنيّ كان انحيازهم للعدوّ لا للقضية، وللمصلحة لا للوطن.

وهو ما يطرح التساؤل بإلحاحٍ: ماذا لو انتصرت الثورة، في مصر؟

لعلّ المسار الذي سارته الدولة المصريّة (السلطة وأذرعها) منذ 2013، يحسم الإجابة، إذ جاءت القرارات كلّها ليست مناقضة فحسب، إنّما انتقاميّة كذلك، من كلّ تجسّدٍ أو أثرٍ أنتجته ثورة يناير وأهلها، فعلاً وقولاً، حتى في سياق الشعارات التي حاولت الثورة ترسيخها، خاصّة فيما يُعنى بالقضيّة الفلسطينية وصراعنا مع العدو، في كلّ نافذةٍ للثورة، وفي بيانات ائتلاف شبابها، وفي تسيير القوافل، والوقوف بحسم أمام اتفاقيّات الغاز والكويز والتخلّي عن الخريطة أو شيء منها، كما أمام كلّ طرحٍ لتصفية القضيّة بالنقل أو التهجير أو إعادة الترسيم أو إتمام التطبيع وغيرها.

فتحت يناير المعبر وجعلت الطريق لفلسطين (ذهابًا وإيابًا) شيئًا يوميًّا معتادًا، رغم العوائق التي حاولت الأجهزة وضعها مع كلّ خطوة، كما أصبح إدخال كلّ ما يحتاجه الفلسطينيّون قابلا للحدوث رغم محاولات منعه فوق الأرض وتحتها، من التحالف المصري الأميركي الصهيوني، وربّما بقيَ  شيء من آثار ذلك حتى اليوم في غزّة.

كما كانت المقاومة حاضرةً في الخطاب والممارسة دفاعًا عنها كمشروع تحرّر وطني على كلّ ثائرٍ الانتماء له والدفاع عنه، لا مجرّد تضامن الغرباء، بل بخلق ظهيرٍ يطوّر مشروعيّتها ويدعم نضالاتها وينتصر لحقّها الأصيل في الكفاح المسلّح.

وهو بالضبط ما أدركته سلطة ما بعد يناير، فسارت عليه طمسًا ونفيًا إلى أن شاركت (كما لم تفعل سلطةٌ من قبل) في الحصار بإغلاق المعبر في وجه أهلنا (بمن فيهم المصريّون العالقون على الجانب الآخر)، والتطوّع بمنع قوافل المساعدات، والذي أدّى ضمن ما أدّى لاستشهاد أكثر من 9000 فلسطيني لغياب الدواء اللازم لإنقاذهم، والتعاون الاقتصادي، والدعم المعلوماتي، وفتح قناة السويس أمام ناقلات الأسلحة والذخائر واعتقال أو طرد النشطاء الذين يُزعجون العدو ومنع الصحافيين من الدخول، في دورٍ يتجاوز حتى الوكالة عن العدوّ في جرائمه بحق الكلّ (أوطانًا وناسًا) إنّما في الشراكة المباشرة معه في كلّ جريمة يرتكبها.

وإذا كانت العدالة التي تبنّتها ثورة يناير، بجانب الحريّة لمواطني هذا البلد، فهي كذلك لكلّ إنسان في كلّ مكان، وفلسطين قبل الكلّ لأنّها البوصلة والمعيار، وهو ما يذكّرنا بما قاله الناشط والمعتقل المصري، علاء عبد الفتاح، عن الثورة ودولتها التي لم تكن: "دولة الثوار عادلة، لا تتبنّى فقط العدالة لناسها، إنّما لا تظلم أحدًا ولا تحاصر أحدًا".

وهذا ربّما يجيب عن سؤال: ماذا لو انتصرت الثورة؟ أو ربّما: لماذا لم تنتصر الثورة؟

مدونات
مدونات

مدونات العربي الجديد

مدونات العربي الجديد

النصّ مشاركة في ملف| غزّة لحظة عالمية كاشفة، شارك معنا: www.alaraby.co.uk/blogsterms