"كاثرينا": همُ العدوّ فاحذرهم

31 أكتوبر 2024
+ الخط -

يمكنك متابعة موقع ميناء الإسكندريّة لتكتشف حجم التورّط المصري (الرسمي) في الإبادة، لا تطبيعًا ولا تواطؤًا ولا حتى خيانة، فالخيانة يلزم أن يكون الخائن في صفّك ثمّ يغدر بك، ستكتشفُ شراكةً عسكريّة مباشرةً في الجريمة، بعد الإنسانيّة بإحكام الحصار والتجويع، وبعد السياسيّة بإخراس كلّ صوتٍ صارخٍ لإنقاذ المبادين اعتقالاً وتهديدًا وترحيلاً وقمعًا، وبعد الاقتصاديّة بالسفن التجاريّة التي تنقذ اقتصاد العدوّ وتخفّف احتقان مجتمعه المحتلّ مدًّا يوميًّا له بالطعام ومستلزمات البناء وغيرها، إنّما شراكةً حربيّة، حرفًا لا مجازًا.

ستعرفُ حين تزور موقع الميناء أنّ شركةً مصريّة (رسميّة؟) هي المكتب المصري للاستشارات البحريّة (إيمكو)، هي الوكيل البحري للسفينة الحربيّة "كاثرينا"، التي ترفع العلم البرتغالي وتديرها شركة ألمانية، وتحمل ثماني حاويات مواد متفجّرة (آر دي إكس هيكسوجين)، تُستخدم بحسب مقرّرة الأمم المتحدة المعنيّة بالأراضي المحتلّة، في صناعة الصواريخ والقنابل التي تُستخدم في حرب الإبادة الجارية الآن بحقّ الأهل في فلسطين ولبنان، لصالح ثلاث شركات أسلحة إحداهنّ صهيونيّة، وهي شركة الصناعات العسكريّة الإسرائيليّة.

وستعرفُ بتتبّع ما نُشِرَ عن الحكاية والسفينة في الأسابيع الماضية أنّ البرتغال أمرت بإنزال علمها عن السفينة، ورفعت العلم الألماني بديلاً، وأنّ مالطا رفضت استقبال السفينة للتزوّد بالمؤن وتغيير الطاقم، وأنّ ناميبيا منعت دخولها المياه الإقليميّة للبلاد بناءً على نداء وزيرة العدل، كذلك فعلت مونتنيغرو وأوغندا، لكنّ مصر "العربيّة" الجارة والشقيقة والأخت الكبرى وأمّ الدنيا، استقبلتها وفرّغت محتواها القاتل، وستطلقها إلى العدوّ ليستخدمه.

دعكَ من حجم الوقاحة في هكذا تصرّف يصطدم بكلّ ما ادّعاه أيّ منصب رسميّ في هذا البلد، ودعكَ من نسف هذا (عمليًّا) لأيّ ادّعاء وساطة مصريّة في هذه الإبادة، إذ هي الآن مع الإدارة الأميركيّة في طبيعة التورّط ولو لم تصل لحجمه (تقزّمًا لا تعفّفا) ودعكَ من موقف السلطة التي وافقت على ذلك (راغبةً أو مترهِّبة) إذ يتّسقُ ذلك مع مسار مواقفها وتموضعها منذ اللحظة الأولى تجاه القضيّة والمقاومة والحق مجرّدًا والحق في الحياة والتحرير والحريّة تحديدًا.

ليسوا مجرّد فشلة أو فسدة أو سماسرة أو ضعفاء؛ إنّما جزء من "العدو" الذي يحتلّ الأرض ويهدم البيوت ويقتل الناس

السؤال الذي يذبحني هذه اللحظة: كيف فعلها العمّال البحريّون؟ في الوقت الذي امتنع أميركان وأوروبيّون وغيرهم حول العالم، من القيام بفعلةٍ مشابهة؟ لكنّ مصريّين عرب قاموا بتخدمة السفينة وطاقمها، وفرّغوا حمولتها ثم أعادوا تحميلها للسفينة الجديدة المتجهة إلى أسدود لتقتل إخوانهم.

ألا يبكي هؤلاء ليلاً حين يعودون لمنازلهم وهم يتابعون مشاهد الدمار؟ ألا تلطّخ وجوه مناماتهم أشلاء ودماء الأهل التي يتابعونها أو يتعثّرون بها ولو مصادفةً؟

لعلّ هذا هو الأثر الأشدّ رعبًا لما قامت به السلطة في هذه العشريّة الدمويّة، ورسّخته في الأذهان والنفوس قبل الواقع، لا أن يطبّع الناس مع جريمة بهذا الحجم، إنّما يشاركون فيها بيدهم وكتفهم وعلى أرجلهم، لا مشروبًا غازيًّا ولا وجبة دجاج مقرمش يمكن التحايل على شرائها بتلاكيك وقحة، تكاسلاً أو نطاعة، إنّما شحنة متفجّرات، ذاهبة لجيش العدو ليصنع بها قنابله وصواريخه، فيقتل بها الأهل.

بالأمس فقط نشرتُ مقالاً حول عداء هذه السلطة لمصر، وجودًا ممتدًّا، لا مجرّد انحياز أو دور أو أثر، والآن أؤكّد ومعي هذا الدليل، الذي يمكن للكلّ التأكّد منه لأنّ أحدًا لم يكلّف نفسه مشقّة إخفائه: ليسوا مجرّد فشلة أو فسدة أو سماسرة أو ضعفاء؛ إنّما جزء من "العدو" الذي يحتلّ الأرض ويهدم البيوت ويقتل الناس، وإن كان اليوم ينقل الذخيرة، فغدًا سيشاركُ ويقصف بنفسه، ساعتها لن يقصف غزّة ولبنان وحدهما... ربّما يقصف القاهرة أيضًا.